أخباردولية

الشراكات المغربية–الصينية–الإفريقية: نحو رؤية دولية عادلة ومستدامة

عبد الله مشنون , كاتب صحفي مقيم في ايطاليا

في عالم يتجه نحو التغير المتسارع، لم يعد ممكنًا مواصلة العمل بنفس الأدوات القديمة التي قامت على منطق القوة والسيطرة وتوازنات الصراع. لقد أظهر العقدان الأخيران بوضوح أن النظام الدولي التقليدي، الذي تأسس على مبدأ الهيمنة، عاجز عن معالجة تحديات عالمية متشابكة، تتجاوز الحدود الجغرافية والمصالح الآنية.

لم يعد السؤال اليوم عن مَن يربح ومن يخسر في لعبة النفوذ الدولي، بل عن كيف يمكن بناء نموذج تشاركي يُنهي منطق الإقصاء، ويضمن تنمية منصفة ومستدامة لكل الشعوب.

الخطابات التي تعيد تدوير الصراع كمبدأ أساسي لتنظيم العلاقات بين الدول أصبحت غير صالحة للاستهلاك الأخلاقي والسياسي. هناك حاجة إلى رؤية جديدة تنطلق من العدالة بوصفها أساسًا للتعاون الدولي، لا بوصفها تنازلاً ظرفيًا.

فالعالم اليوم يشهد تحوّلًا في وعي الشعوب والدول النامية، التي باتت ترفض أن تبقى رهينة لمنظومة تقيس النجاح بمساحة النفوذ بدل عمق التأثير الإنساني. لهذا، فإن التحول نحو نموذج “رابح–رابح” لا يُعد ترفًا مفاهيميًا، بل ضرورة استراتيجية.

برزت في السنوات الأخيرة مبادرات سياسية من قوى كبرى وأخرى صاعدة، تدعو إلى إعادة تشكيل البنية الأخلاقية للنظام الدولي. تلك المبادرات لم تعد تدور فقط حول الاقتصاد أو التبادل التجاري، بل دخلت إلى صميم الخطاب السياسي العالمي، مؤكدة أن التنمية المتوازنة لا يمكن فصلها عن احترام السيادة، ولا عن الإنصاف في توزيع الموارد والمصالح.

الصين، بصفتها قوة دولية صاعدة، دفعت في هذا الاتجاه من خلال دعوات متكررة إلى تجاوز ما سمّته “اللعبة الصفرية”. وهي لا تدعو إلى التسويات الخطابية، بل تقدم رؤية قائمة على مصالح متوازنة، حيث يكون الربح مشتركًا، والشراكة قائمة على الندية والاحترام.

في المقابل، شكل المغرب خلال العقدين الماضيين نموذجًا عمليًا لتجسيد هذه الرؤية، خصوصًا في تعامله مع محيطه الإفريقي. فمنذ مطلع الألفية، اختار المغرب أن يبتعد عن الخطابات الاستعلائية أو التنافسية، ليركز على شراكات فعالة، تثمر مشاريع ملموسة، وتعيد بناء الثقة بين دول الجنوب.

سواء عبر مشروعات البنية التحتية الإقليمية، أو المبادرات الصحية خلال الأزمات، أو الاستثمار في الطاقات المتجددة والتعليم، فإن الدبلوماسية المغربية اختارت طريق “الربح المشترك” كأساس لأي تعاون.

لقد بُني هذا التوجه على قناعة استراتيجية: أنه لا يمكن لأي دولة أن تنجح في محيط هش، وأن استقرار القارة لا يتحقق بالمساعدات الظرفية بل بالشراكات المنتجة.

الشراكات المغربية الإفريقية والصينية: تجسيد عملي لرؤية رابح–رابح

تُعد الشراكات المغربية الإفريقية والصينية من أبرز تجليات نموذج “رابح–رابح” الذي يتجاوز الخطابات النظرية ليصبح ممارسة يومية تؤكد عمق التزام المغرب ببناء تحالفات استراتيجية على أساس التعاون والتكامل.

في إفريقيا، تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، عمل المغرب على بناء جسور قوية مع العديد من الدول عبر استثمارات واسعة في قطاعات حيوية مثل الطاقة المتجددة، البنية التحتية، القطاع المصرفي والصحي، حيث تتجلى رؤية التنمية المشتركة في مشاريع ملموسة تخدم شعوب القارة وتدعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ويعكس ذلك إيمان المغرب العميق بأن التنمية الحقيقية لا تُبنى عبر المساعدات المؤقتة، بل عبر شراكات طويلة الأمد تحقق مصالح متبادلة.

على الصعيد الدولي، شهدت العلاقات المغربية–الصينية تفاعلاً ديناميكياً يتناسب مع طموحات البلدين في إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي والاقتصادي. إذ تتقاطع رؤية الصين في تعزيز نظام دولي يستند إلى مبدأ “رابح–رابح” مع استراتيجيات المغرب في التعاون جنوب–جنوب. هذه العلاقة ليست مجرد تعاون اقتصادي، بل شراكة استراتيجية تدعم تبادل الخبرات، التكنولوجيا، والاستثمار في مشاريع تعود بالنفع على الطرفين، مع احترام السيادة الوطنية والخصوصيات الثقافية.

تُعد هذه الشراكات مثالاً حيًا على إمكانية تجاوز منطق الهيمنة والصراعات، عبر بناء تحالفات تستند إلى العدالة والتنمية المستدامة، ما يجعل من المغرب لاعبًا محوريًا في الدفع بنموذج علاقات دولية أكثر إنصافًا وتوازنًا، مدعومًا بشراكات متعددة الأطراف.

العدالة لا تتوقف عند حدود التنمية فقط، بل تشمل احترام القوانين والمؤسسات الدولية. فالنظام العالمي الجديد، إن كان يراد له أن يكون مستدامًا، لا يمكن أن يُبنى على موازين قوة متقلبة، بل على شرعية قانونية واضحة، تتساوى أمامها جميع الدول، بصرف النظر عن حجمها أو نفوذها.

إن الدعوة إلى تجاوز منطق “الأمر الواقع” أو “الحق بالقوة” ليست مجرد موقف مبدئي، بل هي ضرورة لبقاء النظام الدولي في صورته المؤسسية. فبدون إطار قانوني عادل، تصبح كل القواعد عبثية، وتفقد الشعوب الثقة في فكرة المجتمع الدولي.

ما يجمع الرؤيتين المغربية والصينية ليس تقاطع مصالح آنية، بل توافق في العمق حول المبادئ: احترام السيادة، تعزيز التنمية المشتركة، والدعوة إلى بناء شراكات متكافئة ترفض الاستغلال.

وفي زمن تعود فيه الصراعات إلى الواجهة من جديد، تبدو هذه الرؤية المشتركة بمثابة بديل استراتيجي عالمي، يعيد الاعتبار للقيم في زمن تآكلت فيه الأخلاقيات تحت ضغط المصالح الضيقة.

هل نحن على أعتاب تحول جيواستراتيجي؟

المؤشرات كثيرة على أن العالم يتجه نحو إعادة ترتيب أولوياته. منظمات دولية باتت تفقد مصداقيتها أمام الفشل المتكرر في وقف النزاعات، ودول نامية تطالب بإصلاح منظومة القرار العالمي، وتكتلات جنوب–جنوب تكتسب حضورًا فعّالًا. في هذا السياق، تبدو دعوة الصين والمغرب لتأسيس نظام “رابح–رابح” أكثر من مجرد مقترح سياسي. إنها مشروع عالمي بديل.

إذا كان الماضي قد صيغ وفق منطق “الأقوى يفرض”، فإن المستقبل يجب أن يُبنى على أساس “الأقدر على التشارك هو الأجدر بالقيادة”.

الانتقال من فلسفة الصراع إلى فلسفة التعاون ليس مجرد تحول لغوي في الخطاب، بل هو ثورة مفهومية حقيقية، تُعيد تعريف ما يعنيه أن تكون دولة قوية: ليس بكمّ ما تملكه من أدوات الضغط، بل بكمّ ما تمنحه من فرص للآخرين.

العالم بحاجة إلى هذا التحول… وإلا فسنظل ندور في حلقة صراعات لا تنتهي.

Ahame Elakhbar | أهم الأخبار

جريدة أهم الأخبار هي جريدة مغربية دولية رائدة، تجمع بين الشمولية والمصداقية، وتلتزم بالعمل وفقًا للقانون المغربي. تنبع رؤيتها من الهوية الوطنية المغربية، مستلهمة قيمها من تاريخ المغرب العريق وحاضره المشرق، وتحمل الراية المغربية رمزًا للفخر والانتماء. تسعى الجريدة إلى تقديم محتوى يواكب تطلعات القارئ محليًا ودوليًا، بروح مغربية أصيلة تجمع بين الحداثة والجذور الثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا