اسلاميات

أبو لهب.. من وهج الجمال إلى لهب الجحيم

لم يرد في القرآن الكريم ذكرٌ صريح لاسم أحدٍ من أعداء الدعوة الإسلامية سوى أبي لهب، فقد خُصصت له سورة كاملة تحمل اسمه، سورة المسد. وهذه السورة جاءت لتخلّد موقفًا من أشد مواقف العداء التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم، ولتجعل من أبي لهب وزوجته رمزًا للشقاء والخسران، رغم ما بلغا من جاهٍ وحُسن مظهر ووجاهة بين قومهما.

لقد كان اسم أبي لهب الحقيقي “عبد العُزّى بن عبد المطلب”، والقرآن الكريم ما كان ليذكر اسمًا يشتمل على عبودية لغير الله، كـ “عبد العزى”. ثم إن الرجل اشتهر بين الناس بكنيته أكثر من اسمه، حتى صارت عَلَمًا عليه، فكان ذكره بها أوقع وأفصح. غير أن التفسير الأعمق – كما أشار الإمام القرطبي – أن كنيته نفسها حملت معنى السخرية والتهكم، فقد كان أبو لهب جميل الوجه، مشرق اللون، حتى شبّه وجهه باللَّهَب. فلما أنزل الله الحكم عليه بالخلود في نارٍ ذات لهب، صار الاسم مطابقًا لمآله، وانتقل من كنية فخرٍ إلى لقب عارٍ أبدي.

لقد كان أبو لهب يُعَدّ من أجمل رجال قريش، وكان حسن الوجه، شديد الحمرة والوسامة. لكن هذا المظهر لم يشفع له عند الله، ولم يُغن عنه شيئًا يوم باء بالخسران. وهنا يضرب القرآن مثلاً بليغًا على أن المعايير الدنيوية من جمالٍ ومالٍ لا قيمة لها إذا ما خلت القلوب من الإيمان. وعلى النهج نفسه، كان أبو جهل يُسمى “أبا الحكم” لما عُرف به من رجاحة عقلٍ في قومه، فلما كفر وسلك مسالك العناد والجهالة، سمّاه الإسلام “أبا جهل”، إشارةً إلى أن العقل بلا هدى لا يزيد صاحبه إلا عمًى وضلالاً.

وكان لأبي لهب ثلاثة أبناء: عتبة، ومعتب، وعُتيبة. أسلم الأولان يوم فتح مكة، فكان في إسلامهما تكفير لما مضى من عداوة أبيهما. أما عُتيبة، فقد بقي على كفره، بل أمعن في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال له متحديًا: “إني كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى”، ثم طلق أم كلثوم بنت رسول الله بأمر من أبيه. فدعا عليه النبي قائلاً: “اللهم سلّط عليه كلبًا من كلابك”، فما كان إلا أن افترسه الأسد في طريق سفره، فصار عبرةً لمن اعتبر.

وأما زوجته أم جميل (أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان)، فقد كانت شريكةً لزوجها في العداء، تُلقي الشوك في طريق النبي، وتشيع البغضاء بين الناس، وتتعهد بالإنفاق في محاربته. وقد سماها القرآن “حَمَّالَةَ الْحَطَبِ”، إشارة إلى أنها تحمل في الدنيا حطب الأذى والفتنة، وسيكون جزاؤها في الآخرة أن يُجعل في عنقها حبل من مسد جهنم.

ولم تطل أيام أبي لهب بعد وقعة بدر، إذ أصيب بمرض خبيث مُعدٍ يسمى “العدسة”، فتنفر الناس منه، وتركه أهله ثلاثة أيام حتى أنتن جسده، ثم دفعوه إلى حفرة بأخشاب طويلة خشية العدوى، وقذفوه بالحجارة حتى وُوري فيها. فكانت نهايته على صورة مذلة، توافق ما أنبأ به القرآن: “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ”، أي خسر وهلك.

إن قصة أبي لهب وزوجته ليست مجرد حادثة تاريخية، بل هي درس خالد في أن الجمال والمال والنسب لا تُغني عن الإيمان، وأن العناد والكفر يجرّان صاحبهما إلى أسوأ العواقب. لقد تحولت كنيته من رمز للجمال إلى شارة عار، وصارت وسامته وثراؤه شاهدين على أن الدنيا بأسرها لا تُقيم لصاحبها وزنًا إذا حُرم من الهداية. كما أن في القصة دليلاً على أن الله يُمهل ولا يُهمل، وأن من تسلّط على رسوله صلى الله عليه وسلم عاد وباله عليه. ومن هنا يبقى أبو لهب وزوجته مثالاً يُضرب عبر العصور لعداء الحق وأهله، ومآل أهل الكبر والغرور.

وقد أراد الله أن يُخلِّد ذكر أبي لهب وزوجه في القرآن عبر سورة كاملة، ليبقى اسمهما عبرةً للمتكبرين والمستهزئين، ويُصبحا شاهدين على عدل الله وانتقامه ممن عادى رسله، فكانت حياتهما ومماتهما، ومن ورائهما ذريتهما، دروسًا لا تنقضي دلالتها: “مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ”.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا