
في صباحات الحياة المشرقة، حين تهدأ الأنفاس وتصفو الأرواح، تتجلى لحظات نادرة يجد فيها الإنسان نفسه وجهاً لوجه أمام مرآة الحقيقة… تلك المرآة ليست من زجاج، بل من نور الوحي. إنها آيات القرآن الكريم، التي تحمل في طياتها ملامح الناس وصفاتهم، وتعرض صوراً متنوعة للبشر في ضعفهم وقوتهم، في طاعتهم ومعاصيهم، في قربهم وبعدهم عن خالقهم.
في مثل هذا التأمل جلس الأحنف بن قيس، أحد حكماء العرب وزهادهم، متفكرًا في قول الله تعالى:
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾
فقال: هاتوا لي المصحف لأعرف من أنا ومن أشبه!
ثم شرع في القراءة والتدبر، يبحث بين السطور عن نفسه.
مرَّ على قومٍ قال الله فيهم:
﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
ثم على آخرين:
﴿يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾
وتأمل في من قال الله عنهم:
>﴿يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
فقال بتواضع وخشوع:
اللهم لست أعرف نفسي في هؤلاء!
ثم مضى في القراءة، فمر على آيات تصف الغافلين والمكذبين، فقال بقلب مرتجف:
اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء!
حتى بلغ الآية التي هزّت كيانه:
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
فبكى وقال بخشوع المؤمن العارف بنفسه:
_اللهم أنا من هؤلاء!
وهكذا أدرك الأحنف، كما يدرك كل من تأمل كتاب الله بصدق، أن في القرآن مرآةً للقلوب، وأن فيه وصفاً دقيقاً لكل نفس، فإما أن تراها مطمئنة أو لوامة أو أمارة بالسوء.
أيها القارئ الكريم، اجعل هذا الصباح بداية تأملك الصادق مع نفسك، وابحث في القرآن عن ملامحك، فربما تجدك في آية تتحدث عن المستغفرين بالأسحار، أو في صفات المتقين الذين «يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ»، أو ربما في صفوف التائبين الذين «خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا»، فبادر بالتوبة، وأكثر من الاستغفار، فربك غفور رحيم.
وقال الحسن البصري رحمه الله:
استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإن لهم شفاعة يوم القيامة.
وقال ابن الجوزي وهو يبكي:
إن لم تجدوني يوم القيامة فاسألوا عني، وقولوا يا ربنا عبدك فلان كان يذكرنا بك.
فلنجعل من صباحاتنا مواعيد لقاء مع الله،
نراجع فيها أنفسنا، ونجدد فيها إيماننا،
علّنا نكون من الذين إذا قرؤوا القرآن وجدوا فيه أنفسهم بين صفوف المؤمنين… لا بين الغافلين.