
كانت حركة جيل زد 212– Generation Z212 في المغرب علامة فارقة في المشهد الاجتماعي، إذ مثّلت نداءً شبابياً نابعاً من رحم المعاناة، صرخةً ضد الفساد وضد انسداد الأفق، ومطالبةً بحقوق مشروعة بلسان سلميٍّ حضاريٍّ أراد الإصلاح لا الفوضى، والبناء لا الهدم. غير أنّ هذا المشهد النبيل تعرّض لتشويشٍ حين تسللت إليه فئة من القاصرين والعناصر التخريبية التي ركبت موجة الغضب الشعبي، واستغلت براءة الأطفال وسذاجة بعض المراهقين لتنفيذ أعمال النهب والحرق والتكسير، فاختلطت الصورة بين صوتٍ يطالب بالإصلاح وآخرٍ يعبّر عن فوضى لا تمثّل إلا نفسها.
هؤلاء القاصرون لم يكونوا، في جوهرهم، أعداءً للوطن ولا دعاة تخريب، بل كانوا ضحايا واقعٍ اجتماعيٍّ مضطرب، تُركوا فيه دون رعاية ولا تأطير. إنهم نتاج جيلٍ نشأ في غياب التوازن الأسري، حيث غابت التربية وحضرت المعاناة، وتراجع دور الوالدين أمام قسوة الحياة اليومية وسعيهما المحموم وراء لقمة العيش. لقد تحوّل البيت عند كثيرٍ من الأسر إلى محطةٍ للاستراحة لا إلى حضنٍ للتربية، وغاب الحوار الأبويّ، فصمتت النصيحة، وساد الفراغ العاطفي والتوجيهي.
وفي ظل هذا الغياب، وجدت فئة من القاصرين نفسها في أحضان الشارع وعالم الإنترنت، تبحث عن هويةٍ ضائعة وانتماءٍ مفقود. فالهاتف الذكي صار رفيقهم الدائم، والمنصات الرقمية معلمهم الأول، وألعاب العنف مثل Free Fire ورفيقاتها أصبحت بوابتهم إلى عالمٍ مملوءٍ بالصخب والعنف واللاوعي. ومع انعدام الرقابة، تشكّلت لدى كثيرٍ منهم شخصياتٌ متمردة، سريعة الغضب، تميل إلى المحاكاة لا التفكير، وإلى الفعل قبل الفهم. لقد صار الجيل أسيرَ الشاشات، ينهل من مشاهد القتال بدل مشاهد القدوة، ويتفاعل مع رموزٍ افتراضية بدل الأسرة الحقيقية التي غابت عن المشهد.
ولا يخفى أن الطلاق المتزايد، والتفكك الأسري المتنامي، زادا الطين بلة. فالأبناء الذين نشأوا بين أبٍ غائب وأمٍّ مرهقة، يعيشون صراعاً داخلياً يولّد فيهم شعوراً بالظلم والخذلان، فتتراكم العقد، وتُطفأ جذوة الانتماء. هؤلاء يحتاجون إلى من يحتويهم، لا إلى من يُدينهم، لأنهم مرآةٌ عاكسة لخللٍ اجتماعيٍّ أعمق من مجرد فعلٍ تخريبيٍّ عابر.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن أي مشروع إصلاحي لن ينجح دون إصلاح المنظومة التربوية والاجتماعية من جذورها. فالأسرة هي حجر الأساس، والمدرسة العمومية شريكتها الطبيعية في البناء. ومن هنا، فإن مسؤولية الدولة والمجتمع تتجلى في إعادة الاعتبار للأسرة المغربية، عبر سياساتٍ تُعيد اللحمة إلى كيانها، وتحميها من الانهيار، وتحدّ من سهولة الطلاق، وتشجّع على المصالحة والصلح بدل الفُرقة والشتات. كما يجب دعم الأسر الفقيرة والمعوزة، وتأمين فرص عملٍ كريمة للشباب وخريجي المعاهد والجامعات، لأن البطالة تُنبت الإحباط، والإحباط يولّد الغضب، والغضب حين لا يجد من يؤطّره يتحوّل إلى نارٍ تحرق لا تبني.
إنّ الدولة، بكل مؤسساتها، مدعوّة اليوم إلى النظر بعين الرعاية لا بعين العقاب، وإلى أن تجعل من التربية محوراً وطنياً لا ملفاً جانبياً. فبناء الإنسان هو مشروع الدولة الحقيقية، ومجتمعٌ متماسك يبدأ من أسرةٍ صالحة، ومن مدرسةٍ حاضنة، ومن وعيٍ جمعيٍّ يؤمن بأن الوطن ليس سلطةً تُهاب، بل حضنٌ يُحبّ ويُدافع عنه.
وحين تعود الأسرة إلى دورها، والمدرسة إلى رسالتها، والمسجد إلى توجيهه، والسياسة إلى معناها النبيل، لن نجد أطفالاً يرمون الحجارة في الشوارع، بل شباباً يحملون الحلم في قلوبهم والعلم في أيديهم. فالوطن الذي يحتضن أبناءه، سيجد فيهم من يحرسه ويدافع عنه، لأن الانتماء الحقيقي لا يُفرض بالقانون، بل يُغرس بالتربية، وتزرعه الأمومة، ويرعاه الأب، وتحتويه المدرسة، ويزهر حباً في قلوب الأجيال.











