
الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك أمام البرلمان قد حمل رسائل قوية لمن كان داخل المبنى وكذلك لمن هو متواجد خارجه.
خطاب تميزت لغته بالهدوء، وإن كان خالياً تماماً في ظاهره من نبرات التهديد والوعيد مثلما كان ينتظر العديد من ساسة المعارضة وطيف عريض من الشباب، إلا أنه في مضمونه كان أشد قوة وصلابة، يحمل نظرة ثاقبة في اتجاه بناء مستقبل على خطى ثابتة بعيداً عن الأهواء والانفعالات.
إنه ملك، فهو فوق الجميع، وليس طرفاً منحازاً لهذا أو ذاك، فهو على مسافة واحدة من الجميع.
جلالة الملك ذهب إلى أبعد من كل ما يعج به المشهد السياسي، سواء تعلق الأمر بانفعالات الشارع الذي أظهر اندفاعاً كبيراً وحماساً قوياً من خلال الاستعجال بتحقيق مطالبه التي لا نجادل في وجاهتها ومشروعيتها، أو سواء تعلق الأمر كذلك بالحسابات السياسية لبعض الأحزاب المعارضة التي أبانت عن انشغالها بإسقاط الحكومة أكثر من أي شيء آخر، وكأن إسقاط تلك الحكومة في نظرهم هو الإصلاح الذي ينتظره عموم المغاربة.
ولأن الملك هو الضامن وهو الساهر وهو صمام الأمان، نأى بنفسه، ومن حقه ألا يسقط في صخب الغوغائية وفي حمى الانفعالات، فقفز عن كل ذلك بكل عقلانية لخدمة المطالب الحقيقية وتحقيق انتظارات الشعب المغربي بكل ثقة وثبات بعيداً عن الهرولة أو أية محاولة التفافية بنية تجنب إكراهات المرحلة الضاغطة والحساسة.
جلالة الملك صادق شعبه مثلما يصادق نفسه بأن التغيير الحقيقي لا يأتي بعصا سحرية، وعلى الشباب أن يتسلحوا بدرجة عالية من الفهم والاستيعاب الجيد لمضامين الخطاب الملكي.
وإن كان قد بدا لهم أنه ليس بذلك الخطاب الذي كانوا ينتظرونه، فإنهم قد خلفوا الموعد مع الحقيقة ومع الحكمة والقراءة الجيدة للمستقبل كما يحلم به أولئك الشباب، فكما يقال “في التأني السلامة وفي العجلة الندامة”.
وكلمة السر التي تضمنها الخطاب الملكي هي أنه حينما كشف جلالته عن واحدة من الأعطاب الخطيرة التي تعشش في مخزون الذاكرة المغربية، من خلال الدعوة التي أطلقها بخصوص تغيير العقليات، معتبراً ذلك أساسياً وضرورياً لأي إصلاح ولأية تنمية يراد تحقيقها على الصعيدين الوطني والمحلي.
فما دعا إليه جلالة الملك ليس عبثاً أو من باب الترف الفكري، بل هو واقع مرير ومحبط لكل السياسات التي ترنو إلى الارتقاء بهذا البلد، لكنها لا تصل إلى المبتغى بسبب العقليات السائدة.
العقليات لا يمكن اختزالها فقط في الحكومة الحالية، بل هي آفة لازمت كل الحكومات منذ الاستقلال إلى يومنا هذا. كما أن هذا المرض الخبيث انتشر لدى القاصي والداني، لدى المسؤول في الجهة ولدى المسؤول المحلي، ولدى النقابات وكذلك في جمعيات المجتمع المدني، فالجميع ينهب، وكل واحد ينهب بحسب ما استطاع إليه سبيلاً.
فما هي هذه العقلية التي يراد تغييرها؟ إنها عقلية متوارثة جيلًا عن جيل، مبنية على ثقافة الغش، مظاهرها متعددة، تبدأ من الصراع على الكرسي، المسؤول يحمي نفسه من المكائد بكل ما أوتي من جهد بوسائل مشروعة أو غير مشروعة، والمتربصون به يحاولون إسقاطه أيضاً بكل الوسائل المشروعة أو غير المشروعة.
نضرب مثلاً في هذا الصدد بالحملة المسعورة التي يشنها السيد عبد الإله بنكيران على السيد عزيز أخنوش، فهي ليست من باب المصلحة العامة ولا من مصلحة المغاربة، فحينما يدعو هذا الإسلاموي إلى مقاطعة محطات البنزين العائدة للسيد أخنوش، فما هي استفادة المغاربة من ذلك؟
من عقلية المكائد هذه لا يسلم منها كذلك المسؤول على الصعيد الجهوي والمحلي، وتجلياتها انتشار الرشاوى عند الحصول على أبسط الخدمات التي يقدمها المرفق العمومي والتي هي من أولويات حقوق المواطن البسيط.
وكذلك رؤساء الجماعات المحلية ليسوا أفضل حالًا عن غيرهم، فمن بين هؤلاء من يتصرف في المال العام وكأنه إرث ورثه عن سلالته، يعطي فتاته لمن يشاء من أعضاء المجلس على حساب المعارضين له، الذين لا يطمعون أصلاً في اقتسام الغنيمة بقدر ما تهمهم مصلحة المدينة أو القرية.
هذه العقلية تشير إلينا، ونحن نطل على أبواب الاستحقاقات الانتخابية، أن رؤساء المجالس المحلية يتحركون خلال الأشهر الأخيرة من ولايتهم لإطلاق سراح بعض المشاريع المجمدة لأغراض انتخابية ليس إلا، يكلفون حلفاءهم بتولي تنفيذها في الدوائر التي سيرشحون أنفسهم فيها مرة أخرى، أما معارضوهم فيحرمونهم من ذلك لضرب شعبيتهم في الدوائر المحسوبين عليها. إنها ببساطة عقلية الإقصاء والحرمان.
وكذلك الأمر بالنسبة للأحزاب السياسية كما جاء في الخطاب الملكي، بعد أن دعاهم جلالة الملك إلى القيام بمهمة دستورية وتتمثل في تأطير الشباب وتأهيلهم في المستقبل لكي يكونوا رجال الغد.
لكن معظم قادة هذه الأحزاب لا يمكن استثناؤهم من براثن العقلية الفاسدة القائمة على الزبونية والإقصاء، والبحث عن أصحاب “الشكارة” لضمان المقاعد في البرلمان وفي المجالس الجهوية والإقليمية والمحلية.
ومن يدفع اليوم أوراق نقدية من فئة مائتي درهم لكل ناخب فهو يتطلع لاستعادة أضعاف مضاعفة لكل المبالغ التي صرفها في حملته الانتخابية، فالمسؤولية تقع على الراشي كما تقع على المرتشي، وهذه هي العقلية التي يتحدث جلالة الملك عن تغييرها، ومن هنا يبدأ الإصلاح وإلى هنالك ينتهي.
لكن لا ينبغي التوقف عند التشريح، وإن كان هذا تشريحاً بسيطاً ومختصراً للعقلية السائدة، بل الأهم من ذلك هو كيفية القضاء على هذه العقلية المفسدة لكل شيء.
الجواب عن ذلك لا يمكن حصره في مجموعة من الإجراءات التي يمكن أن نتخذها غداً أو بعد غد، فالعملية ليست بهذه البساطة التي يمكن أن يتصورها البعض، فهي جد معقدة، وتعقيداتها تتغلغل في الإدارة المغربية وخاصة في القطاعات التي يُبنى عليها مستقبل البلاد كالتعليم أولاً.
نحن في حاجة ماسة لبناء شخصية الإنسان المتوازن في إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية، فالخطر الكبير القاتل أن يتعلم التلميذ ثقافة الغش في المدرسة إلى درجة أن الغش تحول إلى حق من الحقوق، وأصبح التلميذ يطالب به في الامتحانات.
وعلى الأسرة كما على الإعلام مهمات وطنية يجب القيام بها لمحاربة هذه العقلية، بتوعية الأجيال على قيم المواطنة وتنمية مشاعر الإحساس بالوطن والانتماء، وتخصيص برامج ثقافية وتربوية تقوي الهوية وتتصدى للمؤامرات التي يقف من ورائها بعض رحال السياسة بالاشتغال على أجندات معادية للبلاد.
أما على مستوى محاربة هذه العقلية المفسدة على المدى المنظور، فقد تضمن الخطاب الملكي إشارات قوية لا تخلو من اتخاذ إجراءات رادعة وجزرية، عرف جلالة الملك كيف يختم بها خطابه السامي بما جاء في القرآن الكريم:
﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره﴾
فالاستعانة بقول الله سبحانه وتعالى خير ما يمكن أن يلجأ إليه أمير المؤمنين في مخاطبة المسؤولين الذين يفترض فيهم أن يكونوا مسلمين، فحضور لغة الدين بقوة هو المرجع الأساسي لمبدأ سياسي وهو ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومن أنذر فقد أعذر.
الخطاب في مجمله يشكل دعوة صريحة للإصلاح الحقيقي، ومن يريد هذا الإصلاح عليه أن يسارع إلى الانخراط في الحوار الذي دعت إليه الحكومة، فالحوار أداة للأخذ والعطاء في جلسات لا سبيل لها إلا أن تنتهي بنتائج مرضية.
فمن هذا الذي يمنع شبابنا من التجاوب مع هذا الحوار؟ أم أن القضية من ورائها شياطين أخرى قد يكون خلف الستار من هم لا يريدون أن تنكشف أمرهم في حوار حضاري وبناء؟ لعلهم أصحاب التقية المتربصين منذ أمد طويل بأمن واستقرار هذا البلد الأمين.