منوعات

القطط: من أسطورة المعابد إلى أسرار العلم الحديث

منذ فجر الحضارات الأولى، كانت القطة أكثر من مجرد حيوانٍ أليف؛ كانت رمزاً غامضاً يسكن وجدان الإنسان ويثير إعجابه وخوفه في آنٍ واحد. من مقابر الفراعنة إلى حدائق العصور الوسطى، ومن الأساطير اليابانية إلى مختبرات العلم الحديث، ظل هذا الكائن المهيب يحتفظ بمكانةٍ استثنائية في التاريخ الإنساني، تجمع بين القداسة والجمال والدهشة.

في مصر القديمة، كانت القطة معبودةً بقدسيتها، تجسّدت في الإلهة “باستت” التي ترمز إلى الحنان والخصوبة وحماية البيت. كتب عالم المصريات إرنست ووليس بدج أن “عبادة باستت بلغت ذروتها حين أصبحت القطة رمزاً للأنوثة الإلهية، لا يُمسّ من يربيها بسوء”. عُثر على مومياءاتٍ لآلاف القطط في معابد “بوباستيس”، ما يؤكد أن المصري القديم لم يرَ فيها مجرد حيوان، بل روحاً حارسة تربط الإنسان بعالم الغيب.

وفي بلاد الرافدين واليونان القديمة، ارتبطت القطط بالسحر والحماية من الشرور، فيما ظهرت في اليابان القطة “مانيكي نيكو” رافعة كفّها كرمزٍ للحظّ والرزق. أما في العالم الإسلامي، فقد حظيت بمكانةٍ خاصة، إذ قال النبي ﷺ: “إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوّافين عليكم”، ما جعل القطة جزءاً من الحياة اليومية في بيوت المسلمين، تُكرم ولا تُؤذى.

لكن أوروبا في القرون الوسطى أظلمت في نظرتها إلى القطط؛ ربطتها بالخرافات والسحر الأسود، حتى إن بعضها أُحرق مع النساء اللواتي اتُّهمن بالشعوذة. ومع عصر النهضة، عاد الإنسان الأوروبي إلى تقديرها، فرأى فيها الفيلسوف مونتين “كائناً يراقبنا كما نراقبه”، في إشارة إلى استقلالها الذكي ونظرتها العميقة.

وفي البحر، كانت القطط ترافق السفن لتحمي المؤن من القوارض وتؤنس البحارة في عزلتهم الطويلة. رُويت قصص عن “سيمون”، قطة السفينة البريطانية التي نالت وسام الشجاعة سنة 1949 بعد إنقاذها طاقم السفينة من غزو الفئران خلال الحرب.

أما العلم الحديث فقد كشف ما يشبه السحر في قدرات هذا الكائن. فالقطط تسمع تردّداتٍ تتجاوز 80 ألف هرتز، أي ضعف نطاق الإنسان، وتمتلك رؤية ليلية مذهلة بفضل طبقةٍ عاكسة في عيونها تُسمى Tapetum Lucidum. كما تستطيع تعديل وضع جسدها في الهواء لتسقط على قوائمها، وهي القدرة التي سمّاها العلماء منعكس الاستقامة.

وشواربها ليست مجرد زينة، بل أجهزة حسّية بالغة الدقة ترصد التغيّرات في الهواء وتوجّه حركتها حتى في الظلام الدامس. أما خرخرتها الغامضة، فهي موسيقى علاجية بامتياز؛ فقد أشارت دراسات حديثة إلى أن تردّدها بين 25 و150 هرتز قد يساعد على التئام العظام وتقليل التوتر العصبي.

ومن أعجب ما حُكي عن القطط قدرتها على العودة إلى بيوتها من مسافاتٍ بعيدة، حتى أطلق العلماء على هذه الظاهرة “الإحساس بالموقع” أو Hom­ing instinct، وتُطرح فرضيات عن حساسيتها للمجال المغناطيسي الأرضي.

لقد رافقت القطة الإنسان منذ تسعة آلاف عام، وظلت مرآةً لعقله ووجدانه. في الأسطورة كانت روحاً مقدّسة، وفي العلم لغزاً حياً. قال الفيلسوف الفرنسي بول فاليري: “القطة مخلوقٌ وُجد ليُعلّمنا أن كل شيء في الحياة لا يستحق العجلة”.

وهكذا تبقى القطة — بين الأسطورة والعلم — دليلاً على أن الجمال قد يكون هادئاً، وأن الأسرار الكبرى قد تسكن في نظرةٍ صامتةٍ من عينين لامعتين في عتمة الليل.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا