
في قريةٍ صغيرة تُدعى كوبر قرب رام الله، وُلد مروان حسيب البرغوثي في السادس من يونيو سنة 1959، ليكبر في زمنٍ مشحونٍ بالاحتلال والنكبات، وتتشكل شخصيته على وقع الغضب والكرامة والرغبة في الحرية. منذ صباه كان يحمل وعياً يتجاوز سنَّه، فانضم إلى حركة فتح في مقتبل العمر، ليصبح أحد أبرز وجوهها في جامعة بيرزيت، حيث قاد الحراك الطلابي وأسس اتحاد الطلبة فيها، معلناً منذ تلك المرحلة انحيازه المطلق لفكرة التحرر الوطني.
لم يكن البرغوثي مجرد ناشطٍ سياسي، بل كان مشروع قائدٍ نضج على نار المعاناة. وبعد سنواتٍ من الاعتقال والإبعاد، عاد إلى الضفة الغربية عقب اتفاقية أوسلو، فاختار أن يكون صوتاً للشارع الفلسطيني الغاضب من وعود السلام المجهضة، داعياً إلى توازنٍ بين المقاومة والمفاوضة، بين الرصاصة والكلمة، بين الثبات على الأرض والانفتاح على العالم. تلك الازدواجية جعلته وجهاً يحظى بثقة الشارع الشعبي ونفور الاحتلال في آنٍ واحد.
وحين اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، برز اسمه كأحد رموزها الميدانيين، يحرّك الجماهير ويدير التنظيمات من قلب الضفة، داعياً إلى مقاومةٍ تضبطها أخلاقيات النضال الوطني، من دون انزلاق إلى العشوائية أو المساس بالمدنيين. لذلك لم يكن غريباً أن تُدرجه إسرائيل على قائمة أخطر المطلوبين، إلى أن اعتُقل في الخامس عشر من أبريل سنة 2002 خلال عمليةٍ عسكرية كبيرة في رام الله.
داخل السجن، لم يُطفئ البرغوثي شعلة حضوره، بل تحوّل إلى ضميرٍ وطني للأسرى وللمجتمع الفلسطيني بأسره. رفض الاعتراف بشرعية محكمة الاحتلال، وقال يومها عبارته الشهيرة: “أنا مقاومٌ للاحتلال، ولست مجرماً أمامكم.” وفي عام 2004 صدر بحقه حكمٌ قاسٍ بخمسة مؤبّدات وأربعين عاماً إضافية، لكنه لم يركع. بل كتب، وعلّم، وقاد إضراباتٍ جماعية عن الطعام، وصاغ وثيقة الأسرى عام 2006 التي دعت إلى وحدة الصف الفلسطيني على أساس المقاومة والاعتراف المتبادل بالحق الوطني.
منذ ذلك الحين، صار يُعرف بلقب “مانديلا فلسطين”، لما يشكّله من رمزيةٍ في الصمود والأمل. فكما خرج مانديلا من ظلمة السجن ليقود جنوب إفريقيا نحو عهدٍ جديد، يرى كثيرون أن إطلاق سراح البرغوثي قد يُعيد ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، ويمنح المشروع الوطني قيادةً تُوحِّد الفصائل وتستعيد ثقة الجماهير.
اليوم، وبينما تعود مفاوضات تبادل الأسرى إلى الواجهة، يُعاد طرح اسمه كأحد الشروط الفلسطينية الأساسية. غير أن إسرائيل ترفض بشدة إدراجه في أي صفقة، وتصفه بأنه “خطر سياسي يفوق الخطر الأمني”، لأنه يمتلك من الشعبية ما قد يُغيّر موازين القيادة في الضفة، ويعيد تعريف معنى المقاومة المشروعة في الوعي الجمعي. وفي المقابل، يرى الفلسطينيون أن استبعاده هو استبعادٌ للأمل ذاته. فبرغوثي، الذي تجاوز الستين من عمره، لا يزال يحظى بتأييدٍ واسع في استطلاعات الرأي، متقدماً على معظم القيادات التقليدية. إنه في نظر الشارع رجل الميدان، لا رجل المكاتب، وصوت الوحدة لا الانقسام، ورمز الشجاعة الذي لم يبدّل موقفه رغم العزلة والسجن والعقاب.
إذا أُفرج عنه في صفقةٍ قريبة، فإن مروان البرغوثي سيكون أمام منعطفٍ تاريخي، فإما أن يتحول إلى جسرٍ للمصالحة بين فتح وحماس، فيجمع شتات البيت الفلسطيني ويقود مرحلة انتقالية تقوم على برنامجٍ وطنيٍّ موحَّد، أو أن يجد نفسه في مواجهة السلطة القائمة، بما تحمله من مصالح وهياكل متجذرة قد ترى في حضوره تهديداً لوجودها. وفي الحالتين، سيظل الاسم ذاته مرادفاً للكرامة الفلسطينية، وللصوت الذي لم يخفت رغم الجدران الحديدية والعزل الطويل.
مروان البرغوثي اليوم ليس مجرّد سجين، بل ذاكرة وطنية متحركة، تختزل تجربة النضال الفلسطيني من الحلم إلى الألم، ومن السجن إلى الأمل. وإن كُتب له أن يخرج يوماً، فإن خروجه لن يكون عادياً؛ سيكون حدثاً تاريخياً يشبه فجر التحرر نفسه. ففي كل شعاعٍ من الضوء يتسلل إلى زنزانته، يولد وعدٌ جديدٌ بأنّ فلسطين لا تنسى أبناءها، وأنّ الحرية – مهما طال انتظارها – قادمة، لأن الشعوب التي تنجب رجالاً مثل البرغوثي لا تموت، بل تُعيد اختراع الأمل من رماد القيد.











