
تشهد أروقة الأمم المتحدة في نيويورك فصلاً جديدًا من فصول المواجهة السياسية بين المغرب والجزائر حول ملف الصحراء المغربية، في جلسة وُصفت بأنها من أكثر الجلسات سخونة في السنوات الأخيرة، إذ برز خلالها تباين حاد بين منطق الواقعية السياسية الذي يقدمه المغرب، وموقف الجمود الأيديولوجي الذي تتمسك به الجزائر تحت شعار “تقرير المصير”.
منذ بداية النقاش داخل اللجنة الرابعة للأمم المتحدة، حاول الوفد المغربي نقل النقاش من مربع الصراع السياسي إلى فضاء الحلول العملية، مؤكداً أن مبادرة الحكم الذاتي التي تقدمت بها المملكة سنة 2007 لا تزال الإطار الجاد والواقعي والوحيد القادر على إنهاء النزاع المفتعل، مع الحفاظ على سيادة المغرب ووحدته الترابية. المندوب المغربي أبرز أن التنمية الشاملة التي تعرفها الأقاليم الجنوبية ليست مجرد مشاريع بنية تحتية، بل تجسيد لالتحام الشعب المغربي بأرضه وصحرائه، مشيراً إلى أن الاستقرار والأمن اللذين تنعم بهما العيون والداخلة دليل على فشل الأطروحات الانفصالية.
في المقابل، ظهر الوفد الجزائري متمسكًا بخطاب تقليدي تجاوزه الزمن، إذ جدد دعوته إلى تنظيم استفتاء لتقرير المصير، متجاهلاً أن هذا الخيار أصبح متجاوزًا حتى في تقارير الأمم المتحدة نفسها التي أكدت منذ سنوات ضرورة إيجاد حل سياسي واقعي وعملي ومتوافق عليه. بل إن ممثل الجزائر، وفق ما ورد في محاضر أممية، ألمح إلى أن بلاده قد تمتنع عن التصويت على مشروع القرار الأممي الجديد إذا ما تضمن اعترافًا ضمنيًا بسيادة المغرب على الصحراء، وهو ما يعكس اضطراب الموقف الجزائري بين الرغبة في التصعيد والخشية من العزلة الدولية.
المراقبون يرون أن ما يجري في الأمم المتحدة اليوم ليس مجرد نقاش تقني حول بند من بنود جدول الأعمال، بل هو صراع إرادات بين مشروعين سياسيين: مشروع مغربي واثق من شرعية قضيته، منفتح على الحلول، ومدعوم من قوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، ومشروع جزائري يقوم على منطق الممانعة والمناورة بهدف إطالة أمد النزاع واستنزاف المغرب إقليمياً. وبين هذين المنهجين، تبرز الأمم المتحدة كحكم يطالب بالواقعية والتفاوض الجاد، لكنها تواجه مأزقًا سياسيًا يتمثل في عجزها عن فرض أي مسار حقيقي للحل منذ أكثر من خمسة عقود.
أما على المستوى الإقليمي، فإن التطورات الأخيرة تشير إلى أن الملف يتجه نحو لحظة حسم دبلوماسي، خصوصًا في ظل التحولات العميقة في موازين القوى. فالمغرب يواصل تعزيز نفوذه في إفريقيا، ويكسب اعترافات متزايدة بسيادته على الصحراء، بينما تجد الجزائر نفسها أمام معضلة داخلية واقتصادية تجعلها أقل قدرة على خوض معارك خارجية طويلة المدى. ورغم محاولات بعض الأطراف الإقليمية استغلال القضية كورقة ضغط سياسية، إلا أن المعادلة الدولية باتت أكثر وضوحًا: الأمم المتحدة لا تبحث عن استفتاء مستحيل، بل عن حلّ سياسي عملي، وهو ما جعل مبادرة الحكم الذاتي المغربية تحظى بتقدير واسع بوصفها السبيل الواقعي لإنهاء النزاع.
لقد أصبحت جلسات الأمم المتحدة مرآة حقيقية لتغيّر موازين الخطاب، إذ لم يعد العالم ينظر إلى القضية من زاوية نزاع حدودي أو تقرير مصير، بل من زاوية استقرار إقليمي واستثمار في الأمن والتنمية. في هذا السياق، يظهر المغرب كقوة مسؤولة تبني وتُقنع وتستثمر في المستقبل، بينما تتراجع الجزائر إلى موقع ردّ الفعل، أسيرة خطاب جامد لا يقدّم بديلاً ولا يملك رؤية للمستقبل.
وفي قراءة تحليلية لمستقبل الصراع، يرى المراقبون أن المغرب يتقدم بثقة نحو تكريس واقع جديد مدعوم بشرعية سياسية وتنموية، بينما تواجه الجزائر صعوبة في إقناع المجتمع الدولي بخطابها القديم. فالمملكة المغربية باتت اليوم تتحدث بلغة الإنجاز والواقعية، مستندة إلى دعم متزايد من القوى الكبرى، وإلى مشروع وطني جامع يستند إلى التنمية والحكم الذاتي، فيما يواصل النظام الجزائري التعويل على خطاب ماضوي فقد صداه في المحافل الدولية.
وفي ضوء هذه التطورات الأممية، تبرز أهمية العامل الأمريكي في موازين الصراع الدبلوماسي بين البلدين، إذ تشير تسريبات دبلوماسية إلى أن واشنطن تتحرك بهدوء لإعادة ضبط الأجواء بين الرباط والجزائر بهدف تهيئة الأرضية لتسوية تدريجية تُحافظ على الاستقرار الإقليمي وتُخفف من حدة التوتر في منطقة المغرب العربي. وتؤكد تقارير دبلوماسية أن الإدارة الأمريكية أطلقت وساطة غير معلنة يقودها مبعوث خاص، يسعى إلى تقريب وجهات النظر بين البلدين من خلال رسائل متبادلة ولقاءات غير رسمية، تمهيدًا لمسار حوار مستقبلي قد يفتح الباب أمام حل سياسي نهائي.
الولايات المتحدة، التي كانت أول قوة عظمى تعترف رسميًا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية سنة 2020، لا ترغب في اندلاع مواجهة جديدة قد تُضعف جهودها في إفريقيا أو تفتح الباب أمام نفوذ روسي متزايد في المنطقة. لذلك، فإن الحفاظ على توازن استراتيجي بين الجارتين المغاربيتين أصبح أولوية في أجندة واشنطن الدبلوماسية، خصوصًا في ظل الحاجة الغربية إلى استقرار شمال إفريقيا كممرّ للطاقة والتجارة.
في المقابل، تبدو الجزائر حذرة من أي انخراط مباشر في وساطة أمريكية خشية أن يُفهم ذلك كإقرار بالأمر الواقع أو تراجع عن مواقفها الثابتة، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن العزلة السياسية لم تعد ممكنة، وأن استمرار الجمود سيؤدي إلى خسارة معنوية أمام تصاعد الاعتراف الدولي بالمبادرة المغربية.
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن الجلسة الأممية الأخيرة كانت أكثر من مجرد مواجهة دبلوماسية، لقد كانت اختبارًا لموازين القوى الجديدة في المنطقة، وإشارة إلى أن مستقبل الصراع لم يعد يُحسم بالشعارات أو الخطابات، بل بالقدرة على بناء تحالفات ذكية وإقناع المجتمع الدولي بأن الحل الواقعي هو وحده الطريق إلى السلام.
وإذا نجحت الجهود الأمريكية في فتح مسار تفاوضي جديد خلال الأشهر المقبلة، فقد تكون سنة 2026، التي ستشهد أيضًا انتخابات مهمة في المغرب والولايات المتحدة، محطة مفصلية لإغلاق واحد من أقدم نزاعات القارة الإفريقية، على قاعدة الاعتراف الدولي المتنامي بسيادة المغرب، وعلى منطق «الاستقرار أولاً» الذي بات يحكم السياسة الدولية المعاصرة.
وهكذا، تبدو الرباط اليوم أكثر ثباتًا وثقة، مدعومة بإجماع داخلي وشرعية دبلوماسية، فيما تجد الجزائر نفسها في موقع دفاعي أمام تحولات إقليمية ودولية تُعيد رسم الخريطة السياسية للمغرب العربي. وبين واقعية المغرب وعناد الجزائر، تميل كفة التاريخ بوضوح نحو من يملك رؤية للمستقبل، لا من يحنّ إلى الماضي.











