
في واحدة من أغرب القصص التي أثارت دهشة العالم، تناقلت وسائل إعلام دولية قصة رجل تنزاني يُدعى إسماعيل عزيزي، وُصف بأنه “الإنسان الذي مات ست مرات وعاد إلى الحياة”، بعدما تم إعلان وفاته في مواقف مختلفة على مدى سنوات طويلة، ليعود في كل مرة من حدود الموت وكأنه يتحدى قوانين الطبيعة نفسها. القصة التي بدت في ظاهرها خارقة للمنطق، دفعت الأطباء والعلماء إلى محاولة تفسيرها علمياً، بين احتمال الخطأ الطبي وظواهر فيزيولوجية نادرة تجعل الموت – أحياناً – يبدو وهماً مؤقتاً لا أكثر.
تبدأ الحكاية من بلدة “أوكليوي” شمال تنزانيا، حيث كان إسماعيل، رجلًا في الأربعين من عمره، يعيش حياة بسيطة كعامل يومي. في يوم من الأيام، أصيب بانهيار مفاجئ أثناء عمله، فتوقف عن التنفس وبرد جسده، فاعتقد الأطباء أنه فارق الحياة وأُودع المشرحة. غير أن المفاجأة وقعت بعد ساعات قليلة، حين استيقظ داخل الثلاجة وهو يرتجف من البرد، وسط ذهول العاملين بالمستشفى. لم يكن ذلك الحادث الوحيد، بل كان بداية سلسلة من “الوفيات” المتكررة التي دخلت حياته في شكل غامض حتى صار مضرب المثل في تنزانيا وخارجها.
تكررت الحوادث خمس مرات لاحقة: مرة بسبب الملاريا الحادة، ومرة بعد لدغة أفعى سامة مكث بعدها في المشرحة ثلاثة أيام قبل أن يفيق فجأة، ومرة إثر حادث سير مروع أدخله في غيبوبة عميقة، وأخرى حين احترق منزله واعتُبر ميتًا قبل أن يُكتشف أنه ما زال على قيد الحياة، ثم أخيرًا حادث سقوط مميت في حفرة عميقة نجا منه بمعجزة. كل هذه الوقائع، بحسب ما نقلته مواقع مثل Pulse Africa وTimes of India، جعلت السكان المحليين ينظرون إليه كـ“رجل خارق” أو “صاحب بركة”، بينما اتهمه آخرون بممارسة السحر، فاختار العزلة ليعيش وحيدًا بعيدًا عن أعين الناس.
لكن العلم لا يسلّم بالغرائب دون تفسير. فالأطباء الذين اطلعوا على حالته يرجحون أن ما حدث له يعود إلى ظاهرة نادرة تعرف باسم “ظاهرة لازاروس” (Lazarus Phenomenon)، وهي حالة طبية حقيقية تحدث فيها عودة مؤقتة لضربات القلب أو التنفس بعد توقفها الكامل واعتبار المريض ميتاً. وقد سُميت بهذا الاسم تشبيهًا بقصة النبي عيسى عليه السلام عندما أحيا لازاروس بعد موته. ووفق دراسات منشورة في مجلات الطب القلبي كـ The Lancet وResuscitation Journal، فإن هذه الظاهرة قد تحدث بسبب تراكم الهواء في الصدر أثناء الإنعاش القلبي أو بسبب تأخر امتصاص الأدوية المنشطة للقلب، مما يؤدي إلى عودة الدورة الدموية بعد دقائق أو حتى ساعات من إعلان الوفاة.
إضافة إلى ذلك، هناك حالات أخرى في الطب تعرف باسم “الموت الظاهري” أو “السكون الحيوي” (Apparent Death or Suspended Animation)، وهي حالة يدخل فيها الجسم في تباطؤ شديد للوظائف الحيوية بحيث يصعب اكتشاف النبض أو التنفس بالوسائل العادية. تحدث هذه الظاهرة عادة في حالات انخفاض درجة حرارة الجسم (Hypothermia) أو التسمم العصبي أو الصدمات الدماغية الشديدة. وفي مثل هذه الحالات، يمكن أن يُعتقد أن الشخص مات بينما لا يزال دماغه يحتفظ ببعض النشاط الحيوي الضعيف الذي يسمح له بالعودة لاحقًا.
ويُعتقد أن إسماعيل التنزاني ربما عانى من أحد أشكال الصرع العصبي النادر أو اضطرابات القلب الانعكاسية، التي تؤدي إلى توقف مفاجئ في ضربات القلب والتنفس ثم عودتها بعد فترة قصيرة. كما يحتمل أن يكون التشخيص الطبي في بيئة قروية محدودة الإمكانات لعب دورًا كبيرًا في إعلان وفاته قبل الأوان، خاصة في ظل غياب أجهزة مراقبة دقيقة للمؤشرات الحيوية. فالطب الحديث يؤكد أن الحكم على الوفاة يتطلب مراقبة الدماغ والقلب معًا لفترة كافية، لأن بعض الأعضاء قد تتوقف مؤقتًا ثم تعود للعمل لاحقًا.
من الناحية النفسية، تشير دراسات في علم الأعصاب إلى أن الأشخاص الذين “يعودون من الموت” غالبًا ما يعانون من اضطراب يُعرف بـ “تجارب الاقتراب من الموت” (Near-Death Experiences)، حيث يعيش الإنسان إحساسًا حقيقيًا بالخروج من الجسد، ورؤية الضوء، أو مرور شريط حياته أمامه. هذه الظواهر تُفسَّر اليوم بكونها نتيجة نقص الأوكسجين في الدماغ وتنشيط مناطق معينة في الفص الصدغي تولد أوهامًا واقعية تشبه الحلم الواعي. وربما مرّ إسماعيل بهذه التجارب في كل مرة كان فيها على وشك الموت، ما جعله يعتقد أنه “مات فعلاً” ثم عاد.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد دفعت هذه الحوادث سكان قريته إلى الخوف منه وعدّه “رجلًا ملعونًا” أو “صاحب قوى خفية”، إذ في المجتمعات الإفريقية التقليدية ترتبط مثل هذه الظواهر بالمعتقدات الروحية والسحر. لكن في المقابل، يرى الأطباء أنه إنسان عانى ببساطة من سلسلة نادرة من النوبات المرضية المتكررة التي صادفت أن تتشابه في مظهرها مع الموت.
القصة في جوهرها تُعيدنا إلى حدود العلم والإيمان، بين ما يمكن تفسيره فيزيولوجيًا وما يبقى من أسرار الروح والحياة. فالعلم يعترف أن هناك ظواهر نادرة لم تُفسر كلياً بعد، مثل “الموت المؤجل” أو “النبض العائد”، لكنها تظل ضمن دائرة العلم الطبيعي، لا الخارق للطبيعة. أما الدين فيُذكّر بأن “الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها”، وأن سر الحياة والموت بيده وحده، لا بيد الطب ولا السحر.
قصة إسماعيل التنزاني، سواء كانت مزيجًا من العلم والصدف أو رواية يغلّفها الغموض الشعبي، تبقى مثالاً مثيرًا على هشاشة مفهوم الموت حين يُقاس بالأجهزة، وعلى عمق السؤال الإنساني الأزلي: ما الحدّ الفاصل بين أن تكون حيًا وأن تُعتبر ميتًا؟ ربما لا نملك الجواب النهائي، لكن إسماعيل يذكّرنا بأن الحياة أوسع من مقاييس الأطباء، وأن بين دقات القلب وصمتها مسافةٌ قد يسكنها السر الإلهي الذي لا يُدرك.











