
لم يعد سؤال “هل نحن وحدنا في الكون؟” مجرّد خيالٍ سينمائي، بل تحوّل إلى محورٍ علميٍّ جادٍّ يشغل أرقى العقول في وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” ومراكز البحوث الكونية حول العالم. فبينما لم يُعثر بعد على دليلٍ قاطعٍ يثبت وجود حياةٍ خارج كوكب الأرض، تتراكم الشواهد العلمية التي تؤكد أن البيئات القابلة للحياة ليست نادرة كما كنا نعتقد.
أحدث تلك الأدلة جاءت من أعماق الفضاء، وتحديدًا من قمر “إنسيلادوس” التابع لكوكب زحل. فقد أظهرت بيانات مسبار “كاسيني” أن هذا القمر الصغير يُطلق حبيباتٍ من الجليد تحتوي على فوسفات الصوديوم، وهو عنصر أساسي في بناء الأحماض النووية داخل الكائنات الحيّة. هذه النتيجة، التي نُشرت في مجلة “نيتشر” عام 2023، اعتبرها العلماء أقوى مؤشرٍ على أن محيط إنسيلادوس السائل تحت الجليد قد يكون غنيًا بالعناصر اللازمة للحياة، وربما يضم تفاعلاتٍ كيميائيةً شبيهة بما كان على الأرض البدائية قبل نشوء الأحياء.
الاهتمام لا يقتصر على زحل وحده، فالقمر “أوروبا” التابع للمشتري يخفي هو الآخر محيطًا تحت جليده الكثيف، رصد تلسكوب “هابل” بخاره المنبعث إلى الفضاء. لذلك أطلقت “ناسا” عام 2024 مهمة “Europa Clipper” لاستكشاف مكونات هذا المحيط ورصد أي بصماتٍ حيوية محتملة. فإذا تم العثور على مواد عضوية أو غازاتٍ ناتجة عن نشاطٍ بيولوجي، فقد نكون أمام أوّل أدلة الحياة في نظامنا الشمسي.
أما خارج حدود مجموعتنا الشمسية، فإن تلسكوب “جيمس ويب” فتح آفاقًا جديدة بدراسته لأغلفة الكواكب البعيدة. أحد أبرز أهدافه كان الكوكب “K2-18b” الذي يُعتقد أنه مغطى بمحيطٍ مائي وتحيط به طبقةٌ من الهيدروجين. تحليلات أولية عام 2025 أشارت إلى احتمال وجود غاز “الداي ميثيل سلفيد”، وهو مركب تنتجه الكائنات البحرية على الأرض، لكن دراسات لاحقة نفت وجود دليلٍ إحصائي قوي على ذلك، مؤكدةً فقط رصد الميثان وثاني أكسيد الكربون، وهي مؤشرات على نشاطٍ كيميائي قد يكون حيويًا أو جيولوجيًا.
هذه الاكتشافات تُضاف إلى إشاراتٍ أخرى ما تزال قيد الجدل، مثل الميثان المتقلب في جو المريخ، والفوسفين الذي زُعم وجوده في طبقات الزهرة العليا، وكلاهما لم يُحسم بعد علميًا. ومع ذلك، فإن تراكم هذه الظواهر يدفع العلماء للقول إن “القابلية للسكن” أصبحت حقيقة مؤكدة في عدة مواقع من الكون، وإن غياب الدليل لا يعني بالضرورة غياب الحياة.
إحصائيًا، تشير بيانات ناسا إلى وجود أكثر من ستة آلاف كوكبٍ مؤكد خارج المجموعة الشمسية، تدور كثيرٌ منها في مناطقٍ معتدلة قد تسمح بوجود الماء السائل. وإذا أضفنا إلى ذلك نتائج مشاريع الرصد الراديوي مثل “Breakthrough Listen” التي تفحص ملايين الإشارات من الفضاء بحثًا عن أي نمطٍ اصطناعي يدل على حضارة ذكية، فإن الصورة الكونية تزداد عمقًا واتساعًا.
العلم إذن لا يؤكد وجود الكائنات الفضائية بعد، لكنه يضيّق المسافة بين الفرضية والبرهان. فكل اكتشافٍ جديدٍ لعناصر الحياة في مكانٍ آخر هو خطوة نحو الإجابة الكبرى: هل نحن الاستثناء في هذا الكون اللامتناهي، أم مجرّد سطرٍ في كتاب حياةٍ كونيٍّ واسع لم يُقرأ بعد؟











