
دخلت جمهورية غينيا بيساو مرحلة جديدة من الاضطراب السياسي، عقب تحرّك عسكري مفاجئ أعاد البلاد إلى دائرة الانقلابات التي طبعت تاريخها منذ الاستقلال. تحرّك جاء في سياق سياسي محتقن، وعلى خلفية أزمة ثقة حادّة في العملية الانتخابية، ليفتح الباب واسعًا أمام أسئلة كبرى حول مستقبل الحكم والاستقرار في هذا البلد الواقع بغرب إفريقيا.
من الرصاص إلى السيطرة على الحكم:
في الساعات الأولى من يوم الانقلاب، دوّت أصوات إطلاق نار كثيف في محيط القصر الرئاسي وعدد من المقرّات السيادية في العاصمة بيساو، ما خلق حالة من الذعر في صفوف السكان، ودفع الكثيرين إلى الاحتماء داخل منازلهم. ومع تصاعد التوتر، شهدت شوارع رئيسية انتشارًا مكثفًا لعناصر من القوات المسلحة، مدججين بالسلاح.
وبعد ساعات من الغموض، ظهر ضابط من الجيش عبر التلفزيون الرسمي، معلنًا أن القوات المسلحة قرّرت “تولي زمام الأمور في البلاد”، وتعليق العمل بالمؤسسات الدستورية، ووقف المسار الانتخابي، بدعوى “إنقاذ الدولة من الفوضى وحماية الاستقرار”. كما أُعلن عن إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية مؤقتًا، وفرض حظر للتجول، في مؤشر واضح على انتقال السلطة فعليًا إلى العسكر.
وضع الرئيس ومصير الحكومة:
في خضم هذا التحرك، ترددت أنباء مؤكدة عن وضع الرئيس تحت الإقامة القسرية، وتوقيف عدد من كبار المسؤولين الحكوميين، في إطار ما وصفه قادة الانقلاب بـ”تحييد رموز المرحلة السابقة”. وبينما لم يصدر بيان رسمي مفصّل يحدّد الوضع القانوني النهائي للرئيس، فإن المؤشرات الميدانية أكدت أن السلطة التنفيذية خرجت بالكامل من يد الحكومة المدنية.
هذا التطور الحاد أنهى فعليًا، وبشكل مفاجئ، المسار السياسي الذي كانت البلاد تسير فيه، وأدخل مؤسسات الدولة في حالة شلل كامل.
لم يأتِ هذا الانقلاب من فراغ، بل جاء نتيجة تراكمات سياسية عميقة. فقد كانت غينيا بيساو تعيش على وقع أزمة سياسية حادة، بسبب انتخابات مطعون في نزاهتها من طرف قوى معارضة وفعاليات مدنية، في ظل اتهامات بتضييق على أحزاب كبرى، وغياب تكافؤ الفرص في التنافس السياسي.
وتبادل كلٌّ من معسكر السلطة والمعارضة اتهامات مباشرة بمحاولات التلاعب بإرادة الناخبين، ما أدخل البلاد في حالة انسداد سياسي خطيرة، قبل أن يتدخّل الجيش ويضع حدًا للمشهد المدني برمّته.
تاريخ غينيا بيساو مع الانقلابات جعل هذا التدخل يبدو، في نظر كثير من المراقبين، حلقة جديدة في مسلسل طويل من عدم الاستقرار، حيث لم تنجح البلاد منذ الاستقلال عن البرتغال عام 1974 في بناء تقاليد سياسية راسخة أو مؤسسات قادرة على الصمود أمام الأزمات.
مبرّرات الجيش وحدود الشرعية:
القيادة العسكرية برّرت تحرّكها بوجود “مخططات لتزوير الانتخابات، واستشراء الفساد، وتهديد الأمن القومي”. واعتبرت أن تدخلها جاء “كحلّ اضطراري” لمنع انزلاق البلاد نحو الفوضى والصراع الداخلي.
غير أن هذه المبرّرات قوبلت بتحفظ واسع من القوى السياسية والمدنية، التي ترى أن أي تدخل خارج الدستور، مهما كانت أسبابه، يمثّل ضربًا للمسار الديمقراطي ومصادرة لحق الشعب في اختيار ممثليه.
في الشارع، ساد صمت ثقيل وهدوء حذر، تختلط فيه المخاوف بالترقّب، في انتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة، وسط قلق واسع من تحوّل المرحلة الانتقالية إلى حكم عسكري طويل الأمد.
صدى إقليمي ودولي:
الانقلاب في غينيا بيساو لم يبقَ حدثًا داخليًا، بل سرعان ما أثار ردود فعل إقليمية ودولية متحفظة ومقلقة. فقد أعاد إلى الواجهة مخاوف عودة “عدوى الانقلابات” إلى غرب إفريقيا، في منطقة شهدت خلال السنوات الأخيرة سلسلة من التحركات العسكرية في أكثر من دولة.
عديد من العواصم والمنظمات الإقليمية والدولية دعت إلى ضبط النفس، وحماية المدنيين، والعودة السريعة إلى الحكم الدستوري، محذّرة من أن استمرار الانقلاب قد يجرّ البلاد إلى عزلة سياسية، ويعرضها لعقوبات اقتصادية قد تزيد من معاناة سكانها.
تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة:
اقتصاديًا، تعيش غينيا بيساو أصلًا أوضاعًا هشّة، تعاني من ضعف البنية التحتية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، واعتماد كبير على المساعدات الخارجية. أي اضطراب طويل في الحكم سيؤثر مباشرة على الاستثمارات، وعلى ثقة الشركاء الدوليين، وقد يفضي إلى أزمة معيشية خانقة.
اجتماعيًا، يخشى المراقبون من أن يتحول الانسداد السياسي إلى توتر شعبي واسع، خاصة إذا طالت المرحلة الانتقالية، وتراجعت الحريات العامة، وجرى التضييق على العمل الحزبي والنقابي والإعلامي.

سيناريوهات المرحلة المقبلة:
تتراوح السيناريوهات المطروحة اليوم بين:
عودة سريعة إلى الحكم المدني عبر تنظيم انتخابات جديدة تحت إشراف داخلي ودولي، وهو السيناريو الذي يمكن أن يخفف من الاحتقان.
حكم عسكري مؤقت طويل الأمد يُبقي السلطة بيد العسكر، مع ما يحمله ذلك من مخاطر سياسية واقتصادية.
تصعيد داخلي في حال رفضت قوى سياسية أو شعبية الأمر الواقع، ما قد يُدخل البلاد في دوامة اضطراب أخطر.
غينيا بيساو تقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي. فالانقلاب الأخير لم ينسف فقط مسارًا سياسيًا متعثرًا، بل أعاد إلى الأذهان صورة الدولة العالقة منذ عقود بين طموح ديمقراطي هشّ وهيمنة عسكرية متكررة.
وبين وعود العسكر بإعادة الاستقرار، ومطالب الشارع بالعودة إلى الشرعية والدستور، يبقى مصير البلاد معلّقًا على ما ستسفر عنه الأيام والأسابيع المقبلة. فإما أن يكون هذا التحرك بداية لتصحيح سياسي حقيقي، أو حلقة جديدة في مسلسل طويل من الأزمات والانقلابات… يدفع ثمنها، كالعادة، الشعب وحده.











