
القرآنُ كلامُ اللهِ الذي لا يَخلَقُ على كثرةِ الردّ، ولا تَنفدُ عجائبُه على طولِ المدّ، نزل نورًا لا يُطفأ، وهدىً لا يُخطَأ، وبيانًا يعلو ولا يُعلى عليه، قال جلّ في علاه:
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾.
فالتدبّر مقصود، والفهم معقود، ولا يُنال هذا الفهم إلا بعلمٍ مشدود، ومنهجٍ محمود، وأداةٍ تُحكم فلا تَخون، وتَزن فلا تميل، وتُنير فلا تُضلّ.
وليس القرآن ساحةَ جرأة، ولا ميدانَ مجازفة، فمن خاض بحارَه بغير مجذاف العلم غرق، ومن اقتحَم أسرارَه بغير مصباح الفهم احترق، وقد قال المصطفى ﷺ قولًا فصلًا وحكمًا عدلًا:
«من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»،
فالرأي المذموم هو الهوى إن تحكّم، والظنّ إن تقدّم، لا الاجتهاد إن انضبط، ولا الفهم إن ارتبط بالأصول وشُدّ بالأدلة.
وأولُ ما يُطرق في باب التفسير علومُ القرآن، فهي العُدّة قبل العِدّة، والزاد قبل المسير، بها يُفرّق بين المحكم والمتشابه، ويُعرف الخاص من العام، والمطلق من المقيّد، والمكيّ من المدني، وتُفهم مراحل الخطاب، وتُدرَك مقاصد الأحكام. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه قولَ العارف الخبير:
«ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت»،
فالعلم بالسياق نصف الفهم، والجهل به باب الوهم.
ومن لبّ هذه العلوم أسباب النزول، فهي روح النصّ ومفتاح المقصد، بها ينكشف المراد، ويزول الإشكال، ويُفهم الخطاب على مراد ربّ الأرباب. فكم من آيةٍ أسيءَ فهمها حين قُطعت عن سببها، وكم من حكمٍ استقام حين رُدّ إلى سياقه. ومن ذلك قوله تعالى:
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾،
إذ نزلت رافعةً للحرج، كاشفةً للحكم، حين توهّم بعض الصحابة أن التجارة في الحج إثم، فجاء التنزيل رحمةً لا تضييقًا، وتيسيرًا لا تعسيرًا.
ثم تأتي لغة العرب وإعراب البيان، فهي ميزان المعاني، ومفتاح المباني، بها يستقيم الفهم أو يختلّ، ويصحّ الحكم أو يضلّ. فالقرآن عربيٌّ لفظًا ونظمًا، معنىً وحكمًا، قال تعالى:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
وبحرفٍ يُرفع يُرفع المعنى، وبحركةٍ تُكسر يُكسر الفهم، كما في قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾،
فالعلماء هم أهل الخشية، لا غيرهم، ولو اختل الإعراب لاختل الخطاب، ولذلك قال أهل العلم: من جهل العربية خان المعنى وإن أحسن النيّة.
ولا يثبت الحكم ولا يستقيم الاستنباط إلا بمعرفة الناسخ والمنسوخ، فهو السور الذي يحمي الشريعة من التناقض، والسيف الذي يقطع دابر الاضطراب. فمن الآيات ما بقي لفظه وارتفع حكمه، كما في عدّة المتوفّى عنها زوجها، إذ كانت حولًا كاملًا، ثم نُسخت بقوله تعالى:
﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾،
فمن لم يميّز الناسخ من المنسوخ خلط، ومن خلط ضلّ، ومن ضلّ أضلّ.
وأقومُ سُبل التفسير أن يُفسَّر القرآن بالقرآن، فآياته شهود لبعضها، ونصوصه يصدّق بعضُها بعضًا، كما في قوله تعالى:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾،
فجاء البيان والبيان في قوله:
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾.
ثم بالسنة، فهي الشرح العملي، والبيان النبوي، وقد قال ﷺ:
«ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»،
ففصّل المجمل، وقيّد المطلق، وبيّن الأحكام قولًا وفعلًا. ثم بأقوال الصحابة، فهم أهل اللسان، وشهود التنزيل، وأدرى الناس بمراد رب العالمين.
وقد جمع ابن عباس رضي الله عنهما القول فصلًا فقال:
«التفسير على أربعة أوجه…»،
فمنه ما تعرفه العرب، ومنه ما لا يُعذر أحد بجهله، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما استأثر الله بعلمه، فالتفسير مقام هيبة، لا موضع لعب، ومسؤولية علم، لا ساحة عاطفة.
وهكذا يتبيّن أن تفسير القرآن ليس زخرف عبارة، ولا سباق خطابة، بل علمٌ يُؤخذ بتؤدة، ويُبنى على أصول، ويُصان من الهوى والزلل، فمن جمع علومه، وضبط أدواته، وسار على نهج السلف، فتح الله له باب الفهم، وأكرمه بنور التأويل، وكان من أهل قوله تعالى:
﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.











