
لم يكن المقهى الأدبي جدارًا يُفتح ويُغلق، ولا طاولةً تُنقل وتُزال، بل كان زمنًا يُعاش، وروحًا تُجالس، ومكانًا إذا حضر حضرت الفكرة، وإذا غاب غاب المعنى. هناك كانت القهوة تُسكب على مهل، كما تُسكب الآراء بلا تعجّل، وكانت الجلسة تُدار بالعقل قبل اللسان، وبالإنصات قبل الاعتراض، فتنضج الفكرة كما تنضج الحكاية.
في المقهى الأدبي كان الشاعر يُصلح بيته قبل أن يكتبه، والكاتب يختبر جمله قبل أن ينشرها، والفيلسوف يصغي أكثر مما يتكلم، لأن المكان لا يرحم السطحية، ولا يُجامل العجلة. كانت الطاولة ساحة حوار لا ساحة صراع، وكان الخلاف اختلاف رأي لا كسر ودّ، وكان الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام.
عرفت مدننا العربية هذه المقاهي، فعرفت معها النبض الثقافي الحقيقي؛
في القاهرة كان مقهى الفيشاوي شاهدًا على خطوات نجيب محفوظ، وملتقى طه حسين والعقاد، وفي الإسكندرية جلس المثقفون في مقهى البورصة يتجادلون حتى الفجر.
وفي بيروت احتضن مقهى الهورس شو ومقهى الويمبي شعراء وصحفيين صنعوا الرأي وأشعلوا السؤال.
أما دمشق، فكان مقهى الروضة والنوفرة منابر للكلمة الحيّة، تُلقى فيها القصيدة كما تُلقى الخطبة.
وفي تونس عرف مقهى تحت السور زمنًا كان فيه الأدب خبزًا يوميًا.
وفي طنجة، كان مقهى الحافة يطلّ على البحر، ويجمع بول بولز ومحمد شكري وأرواحًا عابرة تبحث عن الحرية، بينما كان مقهى باريس وسنترال محطات للنقاش والاختلاف.
وفي فاس والرباط والدار البيضاء، لم تخلُ مقاهٍ حملت هذا الدور، وإن اختلفت الأسماء وبقي الجوهر.
لم تكن تلك المقاهي فاخرة البناء، لكنها كانت عامرة المعنى؛ فقيرة الزينة، غنية الفكرة. جلس فيها المبتدئ إلى جوار المخضرم، والقارئ إلى جانب الكاتب، فلا ألقاب تُرفع، ولا مسافات تُفرض، الجميع سواء أمام فنجان قهوة وسؤال مفتوح.
ثم… انسحب المقهى الأدبي في صمت، لا ضجيج لرحيله، ولا لافتة لغيابه. أُغلِق الفيشاوي على ازدحام السائحين أكثر مما فتح على الحوار، وخفَت صوت الهورس شو، وتحوّل كثير من المقاهي إلى ضجيج بلا معنى. رُفعت الطاولات التي كانت تشهد النقاش، وبقيت كراسٍ تنتظر من لا يأتي.
حلّت الشاشات محل العيون، والتعليقات محل الجلسات، والإعجاب السريع محل النقاش العميق. قيل إن البديل وُجد، وإن الفضاء الرقمي صار مقهى العصر، لكن أيّ مقهى هذا الذي لا رائحة له، ولا صمت بين جملتيه، ولا حرارة في كلماته؟ بديلٌ حاضر شكلًا، غائب روحًا؛ كثير الصوت، قليل الأثر؛ سريع التداول، سريع النسيان.
تحسّرنا ليس على القهوة، بل على الجلسة؛ ليس على الخشب، بل على الزمن البطيء الذي كان يسمح للفكرة أن تكبر، وللخلاف أن يهدأ، وللكلمة أن تُولد سليمة. فالمقهى الأدبي لم يكن اسمًا في شارع، بل ذاكرة مدينة، ولا يُعوَّض بتطبيق، ولا يُستنسخ بشاشة، لأنه كان لقاء أرواح قبل أن يكون حدثًا ثقافيًا.
وهكذا بقينا بين فيشاويٍ كان، وحافةٍ ما زالت تقاوم، وبديلٍ لا يوفي، نكتب أكثر ونفهم أقل، نتكلم كثيرًا ونصغي نادرًا، فإذا غابت تلك المقاهي، لم يغب معها المكان فقط، بل غاب معها جزءٌ من الحوار، وجزءٌ من العمق، وجزءٌ من الروح.











