لم يكن الذين خرجوا من بيوتهم تلك الليلة في آسفي يبحثون عن بطولة، ولا عن صورة في نشرة الأخبار. كانوا يهربون فقط من الماء حين قرر أن يدخل بيوتهم دون استئذان، أن يصعد الدرج، أن يطفئ الضوء، وأن يختبر صبر قلوبٍ أنهكها الفقر والانتظار. في دقائق معدودة، تحولت الأزقة إلى أنهار، والبيوت إلى مصائد، والخوف إلى واقع لا يرحم.
بحسب حصيلة رسمية أولية، خلفت الفيضانات التي ضربت المدينة ما لا يقل عن 37 قتيلًا، إلى جانب عدد من الجرحى نُقلوا إلى المستشفى، من بينهم نحو 14 مصابًا، بعضهم في حالات حرجة. أما الخسائر المادية، فكانت ثقيلة: غمر عشرات المنازل والمتاجر، وجرف سيارات، وتضرر طرق وبنى تحتية أساسية، في مشهد كشف هشاشة مدينة لم تكن مستعدة لاختبار بهذا العنف.
لكن معاناة الناس لم تبدأ مع أول قطرة مطر. سبقتها بسنوات من الشكاوى الصامتة: قنوات صرف مهترئة، أحياء بنيت دون حماية كافية، ووعود تُكرَّر في المجالس والبرامج ولا تجد طريقها إلى الأرض. حين جاءت السيول، لم تفاجئ السكان بقدر ما كشفت ما كان معروفًا ومؤجَّلًا: بنية تحتية ضعيفة، وتدبير حضري يراكم الأعطاب بدل أن يعالجها.
الضحايا ليسوا أرقامًا في بلاغ رسمي، بل عائلات فقدت أبناءها، وأمهات ينتظرن تفسيرًا لا يأتي، وأطفالًا سيكبرون بسؤال واحد: لماذا لم يُحمَ بيتنا؟ هذه الأسئلة لا تُجاب بالتعزية وحدها، ولا تُغلق بعبارة “قضاء وقدر”. فالقدر لا يمنع الصيانة، ولا يعارض التخطيط، ولا يبرر الإهمال.
وتحديد المسؤوليات هنا ليس تصفية حسابات، بل شرطًا للإنصاف ومنع التكرار. المسؤولية تبدأ من تدبير الشأن المحلي: تتبع مشاريع البنية التحتية، مراقبة جودة الإنجاز لا الاكتفاء بتدشينه، وتقييم المخاطر في الأحياء الهشة. وتمتد إلى منح التراخيص في مناطق معروفة بقابليتها للغمر، وإلى صرف الميزانيات دون أن يظهر أثرها حين جاء الامتحان الحقيقي. كما تشمل ضعف الاستباق وغياب أنظمة إنذار فعالة، وتأخر التدخل في لحظات كان فيها الوقت يساوي حياة.
الدولة، بمختلف مؤسساتها، مطالبة اليوم بأكثر من تحقيق تقني. المطلوب وضوح مع الناس: ماذا وقع؟ أين الخلل؟ من أخطأ؟ ومن سيُحاسَب؟ لأن فقدان الثقة أخطر من الفيضانات نفسها، ولأن الشعور بأن المأساة ستمر بلا مساءلة هو جرح إضافي في جسد مدينة منكوبة.
ما حدث في آسفي ليس حادثًا معزولًا، بل رسالة قاسية مفادها أن تغير المناخ واقع، وأن المدن غير الجاهزة تدفع الثمن من دم أبنائها. إما أن نختار طريق الإصلاح الجدي—تخطيط، صيانة، وربط المسؤولية بالمحاسبة—وإما أن ننتظر مأساة أخرى، في مدينة أخرى، بنفس الخطاب ونفس الدموع.
آسفي اليوم لا تطلب المستحيل. تطلب فقط حقها في الأمان: أن يكون البيت بيتًا لا قبرًا، والشارع طريقًا لا مجرىً قاتلًا، وأن تتحول الأرقام والخسائر إلى قرارات تمنع تكرار الفاجعة.











