سياسة

بين لغة الانفتاح وضغط العقوبات… العالم يترقب مآلات العلاقة بين روسيا وأميركا وأوروبا

في خضم مشهد دولي بالغ التعقيد، تتقاطع التصريحات السياسية مع التحركات العسكرية والاقتصادية، لتضع العلاقات بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، أمام اختبار حاسم قد يرسم ملامح النظام الدولي في المرحلة المقبلة. وحتى حدود اليوم، تبدو الساحة العالمية مشدودة بين دعوات معلنة للتعاون والحوار، وخيارات واقعية تميل إلى التصعيد والضغط المتبادل.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جدّد التأكيد على أن موسكو لا ترفض التعاون مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بل تعتبره ممكنًا ومطلوبًا إذا قام على أسس متوازنة تراعي المصالح الأمنية الروسية. غير أن هذا الانفتاح يظل، وفق الكرملين، محكومًا بخطوط حمراء واضحة، في مقدمتها الرفض القاطع لأي وجود عسكري أوروبي مباشر داخل الأراضي الأوكرانية، حتى وإن كان تحت مسمى قوات حفظ السلام. ورغم ذلك، تحرص موسكو على إبقاء الباب مواربًا أمام النقاش الدبلوماسي، مؤكدة أن الحوار ممكن لكن دون المساس بجوهر مطالبها الاستراتيجية. كما شددت روسيا على أن أي وقف مؤقت لإطلاق النار، بما في ذلك المقترحات المرتبطة بالأعياد، لا معنى له ما لم يكن جزءًا من اتفاق سلام شامل يضمن استقرارًا طويل الأمد.
في المقابل، تتحرك الولايات المتحدة بخطاب يجمع بين الدبلوماسية والردع. فواشنطن، بالتنسيق مع شركائها الأوروبيين، تعمل على بلورة مقترحات سلام تتضمن ضمانات أمنية لأوكرانيا بعد الحرب، وتؤكد أن هذه الضمانات ضرورية لمنع تكرار الصراع. غير أن الإدارة الأميركية لوّحت في الوقت ذاته بإمكانية فرض حزم جديدة من العقوبات الاقتصادية، خصوصًا على قطاع الطاقة الروسي، في حال رفضت موسكو هذه المقترحات. هذا النهج يعكس قناعة أميركية بأن الضغط الاقتصادي والسياسي يظل أداة مركزية لدفع روسيا نحو تسوية مقبولة، مع الحرص على تفادي مواجهة عسكرية مباشرة قد تتوسع خارج الإطار الأوكراني.

أما الاتحاد الأوروبي، فيعيش حالة توازن دقيق بين الرغبة في إنهاء الحرب والحاجة إلى تعزيز أمنه الذاتي. فمن جهة، يشارك الأوروبيون في الجهود الدبلوماسية الأميركية ويؤكدون دعمهم لأوكرانيا سياسيًا وماليًا، بل ويدرسون آليات جديدة لتمويل كييف، من بينها الاستفادة من الأصول الروسية المجمدة. ومن جهة أخرى، تتصاعد داخل القارة أصوات، خصوصًا في دول الشرق الأوروبي، تطالب بتقوية الدفاعات وتعزيز الجبهة الشرقية للاتحاد تحسبًا لأي تطور سلبي في العلاقة مع موسكو. كما واصل الاتحاد الأوروبي توسيع نطاق عقوباته، مستهدفًا شبكات الالتفاف على القيود المفروضة على صادرات النفط الروسية، في محاولة لتشديد الخناق الاقتصادي.

وسط هذا الاستقطاب، تبرز أوكرانيا كعنصر ضاغط في المعادلة، إذ تصرّ على أن أي تسوية لا تتضمن ضمانات أمنية واضحة وقابلة للتنفيذ ستكون مجرد هدنة مؤقتة. وتدعمها في ذلك واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية، بينما ترى موسكو أن هذه الضمانات، إذا اقتربت من نموذج حلف شمال الأطلسي، تشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.

هكذا، تتشكل صورة دولية معقدة، عنوانها الظاهر هو السعي إلى الحوار، لكن باطنها مليء بأوراق الضغط والعقوبات والتحركات العسكرية. فلا سلام شامل يلوح في الأفق القريب، ولا مواجهة كبرى معلنة، بل مرحلة رمادية تتعايش فيها الدبلوماسية مع التصعيد المحسوب. وفي هذا التوازن الهش، يترقب العالم ما إذا كانت لغة المصالح ستنجح في فرض تسوية تاريخية، أم أن منطق القوة سيواصل إعادة إنتاج الصراع بأشكال جديدة، تتجاوز حدود أوكرانيا لتطال مستقبل العلاقات الدولية برمّتها.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية. أمين عام الإتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب (فرع المملكة المغربية). أمين سر منظمة أواصر السلام العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا