
لا يزال سؤال النهوض في العالم العربي والإسلامي واحدًا من أكثر الأسئلة إلحاحًا وإرباكًا في آنٍ واحد. سؤال يتكرر منذ عقود، بل منذ قرون، دون أن يحظى بإجابات حاسمة أو مسارات واضحة، رغم كثرة التشخيصات وتعدد المشاريع والشعارات. فبين وفرة الإمكانيات وغياب النتائج، يبرز هذا السؤال كمرآة تعكس عمق الأزمة وتعقيدها.
وبحكم متابعتي للشأن السياسي والفكري العربي والإسلامي، ومن موقعي كمغربي يعيش في المهجر، أجد نفسي مدفوعًا لطرح هذا الموضوع بعيدًا عن الخطاب التبريري أو جلد الذات، وبعيدًا كذلك عن النظرة التآمرية التي تختزل كل الإخفاقات في العامل الخارجي.
إن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في غياب الموارد، فالعالم العربي والإسلامي يزخر بثروات طبيعية هائلة، وموقع جغرافي استراتيجي، ورأسمال بشري شاب. لكنها تكمن أساسًا في أزمة بنيوية عميقة، تتجلى في ضعف بناء الدولة، وهشاشة المؤسسات، وغياب الحكامة الرشيدة، وتضارب المرجعيات الفكرية والسياسية.
لقد فشلت كثير من مشاريع النهوض لأنها انطلقت من استيراد نماذج جاهزة، دون مراعاة الخصوصيات التاريخية والثقافية والاجتماعية، أو لأنها ارتكزت على خطاب أيديولوجي أكثر منه مشروعًا عمليًا قابلًا للتنفيذ.
لا يمكن الحديث عن نهوض حقيقي دون التوقف عند أزمة العقل في المجال العربي والإسلامي. عقل ما زال، في جزء كبير منه، أسير ثنائية الماضي والمقدس من جهة، والحداثة المستوردة من جهة أخرى، دون القدرة على إنتاج تركيب فكري متوازن يربط بين الأصالة والتجديد.
لقد تحوّل الدين، في كثير من السياقات، من قوة أخلاقية جامعة ومحفزة على العمل، إلى أداة صراع سياسي أو وسيلة للشرعنة، بينما تحولت الحداثة إلى قشرة شكلية لا تمس جوهر التفكير ولا طرق التدبير. وفي ظل هذا الارتباك، غابت القدرة على إنتاج مشروع حضاري متماسك.
وفي سياق التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، يفرض التحول الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي نفسه كعامل جديد في معادلة النهوض أو التعطيل. فقد أتاحت هذه الوسائل فرصًا غير مسبوقة لنشر المعرفة، وتبادل الأفكار، وكسر احتكار المعلومة، لكنها في المقابل ساهمت أيضًا في تسطيح الوعي، وانتشار الخطاب الشعبوي، وتغليب الانفعال على التفكير النقدي.
إن مجتمعات لا تمتلك أدوات الفرز المعرفي، ولا تُدرّب أبناءها على التفكير النقدي، تصبح أكثر عرضة للتلاعب، وأقل قدرة على تحويل الثورة الرقمية إلى رافعة للنهوض بدل أن تكون عامل تشويش إضافي.
من أبرز معيقات النهوض أيضًا ضعف الدولة الوطنية في عدد من البلدان العربية والإسلامي. دولة لم تنجح بعد في ترسيخ مفهوم المواطنة، ولا في تحقيق التوازن بين السلطة والحرية، ولا في بناء عقد اجتماعي عادل يضمن الحقوق ويحدد الواجبات.
فلا نهوض دون دولة قوية بمؤسساتها، عادلة في قوانينها، خاضعة للمساءلة، وقادرة على إدارة التنوع بدل قمعه أو تجاهله. التجارب الناجحة عالميًا تؤكد أن التنمية ليست نتاج الشعارات، بل ثمرة الاستقرار السياسي، والتعليم الجيد، والاستثمار في الإنسان.
إذا كان لا بد من تحديد مدخل أساسي للنهوض، فلن يكون سوى التعليم. تعليم لا يقوم على الحفظ والتلقين، بل على التفكير النقدي، والبحث العلمي، وربط المعرفة بسوق الشغل وبحاجيات المجتمع.
إن الفجوة المعرفية والتكنولوجية التي تفصل العالم العربي والإسلامي عن الدول الصاعدة ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية خاطئة، همّشت المدرسة والجامعة، وأفرغتهما من دورهما كرافعة للتغيير.
ولم يعد الحديث عن التعليم اليوم مكتملًا دون ربطه بالبحث العلمي والاقتصاد المعرفي. فالدول التي نجحت في تحقيق قفزات نوعية في التنمية، لم تفعل ذلك بالموارد الطبيعية وحدها، بل بالاستثمار في المعرفة، والابتكار، والتكنولوجيا، وربط الجامعة بمحيطها الاقتصادي والاجتماعي.
أما في العالم العربي والإسلامي، فما زال البحث العلمي يعاني من ضعف التمويل، وهجرة الكفاءات، وانفصال المعرفة عن حاجيات التنمية، وهو ما يجعل أي مشروع نهوض منقوصًا ما لم يُعالج هذا الخلل البنيوي بجرأة واستمرارية.
لا يمكن إنكار تأثير العامل الخارجي في إعاقة بعض مسارات التنمية، سواء عبر الهيمنة الاقتصادية أو الصراعات الجيوسياسية. غير أن تحميل الخارج كامل المسؤولية يظل هروبًا من مواجهة الحقيقة. فالتاريخ يعلّمنا أن الأمم التي نهضت فعلت ذلك رغم الاستعمار والحروب والأزمات، لأنها امتلكت إرادة الإصلاح وقدرة التنظيم.
المغرب كنموذج إصلاحي داخل السياق العربي والإسلامي
وفي خضم هذا النقاش العام حول إشكالية النهوض، يبرز النموذج المغربي كحالة تستحق الوقوف عندها، ليس باعتبارها نموذجًا مثاليًا مكتملًا، بل تجربة إصلاحية تدريجية تسعى إلى التوفيق بين الاستقرار السياسي ومتطلبات التحديث. فقد اختار المغرب، في سياق إقليمي مضطرب، نهج الإصلاح الهادئ والمؤسساتي، القائم على تعزيز دولة القانون، وتوسيع مجال الحريات، وترسيخ الجهوية المتقدمة، وربط التنمية بالاستقرار.
ويُحسب للتجربة المغربية أنها انطلقت من قراءة واقعية للخصوصيات التاريخية والثقافية والدينية للمجتمع، دون القطيعة مع العصر أو الارتهان لنماذج مستوردة. كما أن الاستثمار في البنية التحتية، وإصلاح الحقل الديني، وتطوير السياسات الاجتماعية، كلها عناصر تعكس وعيًا بأن النهوض لا يتحقق بالشعارات، بل بتراكم الإصلاحات وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
إن هذه التجربة، رغم ما تواجهه من تحديات وإكراهات، تقدم درسًا مهمًا لبقية دول العالم العربي والإسلامي، مفاده أن النهوض ليس فعلًا ثوريًا لحظيًا، بل مسارًا طويل النفس، يتطلب قيادة سياسية واعية، ومؤسسات قوية، ومجتمعًا منخرطًا في مشروع وطني جامع.
ويشكل الشباب اليوم الكتلة الديموغرافية الأكبر في العالم العربي والإسلامي، لكنه في الوقت نفسه الفئة الأكثر إحباطًا، والأكثر إقبالًا على الهجرة، بحثًا عن الكرامة والفرص والاعتراف. هذه الظاهرة لا ينبغي قراءتها فقط بوصفها نزيفًا بشريًا، بل أيضًا كرسالة قوية عن اختلال العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
فإما أن تتحول طاقات الشباب إلى وقود للنهوض عبر سياسات إدماج حقيقية، وإما أن تستمر الهجرة والاغتراب كأحد أبرز تعبيرات فشل مشاريع التنمية، وغياب الأفق المشترك.
إن إشكالية النهوض في العالم العربي والإسلامي ليست سؤالًا نظريًا، بل معركة مصير. معركة تتطلب شجاعة فكرية، وصدقًا سياسيًا، واستثمارًا طويل الأمد في الإنسان. فلا نهوض دون نقد الذات، ولا تقدم دون دولة قوية، ولا مستقبل دون تعليم، ولا كرامة دون عدالة.
وبين التشاؤم السائد والتفاؤل الساذج، يظل الأمل ممكنًا، شرط أن يتحول من شعار إلى مشروع، ومن خطاب إلى ممارسة، ومن أمنية إلى إرادة فعلية للتغيير.










