سياحة

سلا… مدينة الوقار وحكاية العصر التي صارت طرفة

سلا مدينة مغربية عريقة، تستقر على الضفة الشمالية لنهر أبي رقراق، وتجاور الرباط في الجغرافيا، لكنها تحتفظ لنفسها بذاكرة وهوية خاصتين. تعود جذور المدينة إلى العهد الروماني، حين عُرفت باسم «سلا كولونيا»، قبل أن تتشكل ملامحها الإسلامية لاحقًا، وتترسخ صورتها كمدينة وقار وعلم وانضباط اجتماعي. وعلى امتداد تاريخها، لم تكن سلا مجرد عمران وأسوار، بل أسلوب عيش تحكمه العادة ويضبطه احترام الوقت والنظام.

وتُجمع المصادر التاريخية المغربية، من أمثال ابن عذارى المراكشي في البيان المُغرب والناصري في الاستقصا، على أن سلا من أقدم الحواضر المغربية التي لعبت أدوارًا علمية وتجارية وروحية بارزة. فقد ازدهرت فيها الزوايا، وكثرت بها حلقات العلم، واشتهرت بفقهائها وطلبة العلم الوافدين إليها، حتى لُقبت في بعض الكتابات بـ“مدينة الأولياء”، وعُرف أهلها بالجد والرصانة والانضباط.

غير أن الذاكرة الشعبية، التي لا تقل حضورًا عن التاريخ المكتوب، احتفظت عن سلا بحكاية خفيفة الظل، تُروى اليوم على سبيل الطرفة، مفادها أن “أهل سلا يأتيهم الحمق بعد صلاة العصر”. عبارة كثيرًا ما أُسيء فهمها، بينما أصلها لا يحمل أي دلالة انتقاصية، بل يعود إلى سياق اجتماعي وأمني قديم.

ففي زمن كانت فيه سلا مدينة ساحلية محصنة، تحيط بها الأسوار وتضبطها الأبواب، كان للعصر معنى خاص. فقد كانت أبواب المدينة العتيقة، مثل باب المريسة المطل على أبي رقراق، وباب فاس الرابط مع الداخل، وباب بوحاجة، وباب سبتة، تُغلق بعد صلاة العصر مباشرة، كإجراء دفاعي احترازي في فترات كان فيها الخوف من الغزوات المباغتة حاضرًا في الوعي الجماعي.

وكان أذان العصر بمثابة تنبيه غير مكتوب، يفهمه الجميع دون إعلان. ومعه، يتغير إيقاع المدينة فجأة: تتسارع الخطى، ويغدو السير ركضًا، ويحرص الناس على الدخول قبل أن تُغلق الأبواب الثقيلة خلفهم. تجار يُقفلون دكاكينهم على عجل، نساء يسرعن بأطفالهن، وعمال يعودون مسرعين من ضفاف أبي رقراق، لا لهوًا ولا فوضى، بل التزامًا بلحظة أمان لا تقبل التأخير.

ومع مرور الزمن، زال الخطر، وبقي المشهد في الذاكرة. انفصل السلوك عن سببه، وتحول الركض الضروري إلى حكاية، ثم إلى طرفة شعبية. واختُزل ذلك الاستنفار الجماعي في وصف مجازي أُطلق عليه “الحمق”، لا بمعناه الحقيقي، بل كناية عن استعجال جماعي في ساعة واحدة من اليوم.

هكذا صارت حكاية العصر جزءًا من نوادر المدن، لا تنتقص من سلا ولا من أهلها، بل تكشف كيف يمكن لعادة فرضتها الضرورة أن تتحول، مع الزمن، إلى دعابة تُروى بابتسامة. إنها حكاية مدينة عرفت الخطر، فأحسنت التدبير، ثم ورثت عن ذلك ذاكرة شعبية جعلت من أبوابها المغلقة… قصة مفتوحة على التأويل.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية. أمين عام الإتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب (فرع المملكة المغربية). أمين سر منظمة أواصر السلام العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا