في خضم السباق العالمي لفهم داء السكري قبل أن يفرض حضوره السريري، كشفت أبحاث علمية حديثة عن اكتشاف وُصف بالواعد قد يغيّر مقاربة التعامل مع المرض، ليس بعد ظهوره، بل قبل أن يبدأ فعلياً. الخبر الذي تداولته قناة روسيا اليوم وتلقفته عدة منصات إعلامية دولية لا يتحدث عن علاج سحري أو شفاء نهائي، بقدر ما يسلط الضوء على نقطة تحول علمية تفتح باب الوقاية المبكرة والتدخل الاستباقي، خاصة فيما يتعلق بمرض السكري من النوع الأول.
وتفيد المعطيات المستقاة من الدراسة، التي أنجزها باحثون في جامعة فلوريدا الأمريكية ونُشرت في مجلة علمية متخصصة في أمراض السكري، أن العلماء تمكنوا من رصد آلية مبكرة جداً لبدء المرض داخل البنكرياس. فقد أظهرت النتائج أن الجهاز المناعي يبدأ هجومه على أصغر تجمعات خلايا “بيتا” المنتجة للأنسولين قبل غيرها، وهي مرحلة صامتة لا تصاحبها أعراض سريرية ولا ارتفاع ملحوظ في السكر بالدم، لكنها تمثل الشرارة الأولى لمسار المرض.
هذا الاكتشاف يكتسي أهمية خاصة لأنه يحدد بدقة اللحظة التي يخرج فيها السكري من طور الاستعداد الخفي إلى طور التدمير التدريجي، وهو ما يفتح المجال أمام الأطباء والباحثين للتدخل في الوقت المناسب. فبدل انتظار ظهور العطش المفرط، وفقدان الوزن، واضطرابات التمثيل الغذائي، يصبح بالإمكان نظرياً رصد الأشخاص المعرضين للإصابة عبر اختبارات مناعية تكشف الأجسام المضادة التي تهاجم البنكرياس، حتى قبل اختلال مستوى الغلوكوز.
وتتقاطع هذه النتائج مع أبحاث أخرى نُشرت في أوروبا والولايات المتحدة، خصوصاً تلك المرتبطة بتجارب دواء “تيبليزوماب”، وهو علاج مناعي أظهر قدرة على تأخير ظهور السكري من النوع الأول لعدة سنوات لدى الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بالمرحلة ما قبل السريرية للمرض. ويعمل هذا الدواء على تهدئة استجابة الجهاز المناعي وتقليل شراسة هجومه على خلايا البنكرياس، ما يسمح بالحفاظ على إنتاج الأنسولين لفترة أطول.
غير أن الخبراء يشددون، في مختلف التصريحات العلمية، على ضرورة التعامل مع هذه الاكتشافات بحذر علمي ومسؤولية طبية. فالأمر لا يتعلق بإيقاف السكري نهائياً أو منعه بشكل مطلق، وإنما بإبطاء مساره، وكسب وقت ثمين قد يغيّر حياة المرضى، ويخفف من المضاعفات الخطيرة المرتبطة بالمرض، خصوصاً لدى الأطفال والمراهقين الذين يمثلون الفئة الأكثر عرضة للإصابة بالنوع الأول.
كما تؤكد الدراسات أن هذا التقدم لا يشمل حالياً داء السكري من النوع الثاني، المرتبط أساساً بنمط الحياة والسمنة والعوامل الوراثية، لكنه يعكس توجهاً علمياً جديداً يقوم على الطب التنبئي والوقائي، بدل الاكتفاء بالعلاج بعد وقوع الضرر. وهو توجه قد يعيد رسم خريطة التعامل مع الأمراض المزمنة في المستقبل القريب.
في المحصلة، فإن الاكتشاف الذي تحدثت عنه روسيا اليوم وتداولته عدة وسائل إعلام دولية يستند إلى أساس علمي موثوق، ويعكس تقدماً حقيقياً في فهم المراحل الخفية لمرض السكري، دون أن يصل بعد إلى مرحلة المنع التام أو العلاج القاطع. لكنه، في المقابل، يمنح الأمل لملايين الأسر حول العالم، ويؤكد أن المعركة مع السكري لم تعد تبدأ عند أول ارتفاع في السكر، بل قبل ذلك بسنوات، داخل خلايا صغيرة قد تحمل مفتاح الوقاية الكبرى.







