
يُعدّ فيلم «الحاكم العام لجزيرة الشاكرباكربن» (1980) للمخرج والممثل المغربي نبيل لحلو واحدًا من أكثر الأعمال السينمائية المغربية إثارة للجدل والدهشة، ليس فقط لفرادته الجمالية، بل لأنه اختار منذ لحظته الأولى أن يسير عكس التيار، وأن يطرح أسئلة حادة عن السلطة، والهوية، والواقع، عبر لغة سينمائية عبثية وسريالية نادرة في تاريخ السينما الوطنية.
ينطلق الفيلم من حكاية تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها سرعان ما تنفتح على عوالم رمزية معقدة. شخصية “الغربي”، الموظف البسيط في قسم التليكس بإحدى الجرائد، يعثر على برقية غامضة تتحدث عن جزيرة بعيدة تُدعى “الشاكرباكربن” اختفى حاكمها العام. من هذه اللحظة، يبدأ التداخل بين الواقع والخيال، بين الشخصي والسياسي، حيث يجد الغربي نفسه منجذبًا إلى عالم الجزيرة، متقمصًا دور الحاكم الغائب، في رحلة ذهنية ونفسية تتجاوز المنطق التقليدي للسرد السينمائي.
لا يقدّم نبيل لحلو جزيرة الشاكرباكربن كمكان جغرافي محدد، بل كفضاء رمزي مفتوح، يمكن أن يكون أي مكان، وأي نظام، وأي سلطة. الجزيرة هنا ليست سوى استعارة للعالم، والحاكم العام ليس سوى صورة مكثفة للإنسان حين يُمنح سلطة مطلقة، أو حين يتوهم امتلاكها. بهذا المعنى، يصبح الفيلم قراءة فنية ساخرة للعلاقة بين الفرد والسلطة، وبين الحلم والواقع، وبين القهر والتماهي معه.
الأسلوب الإخراجي للفيلم يؤكد هذا الاختيار الجمالي والفكري؛ فنبيل لحلو يعتمد لغة بصرية متكسرة، حوارًا متعمّد الغرابة، وانتقالات مفاجئة بين المشاهد، وكأنه يرفض إراحة المتفرج أو تقديم قصة جاهزة. المشاهد تُبنى على الإيحاء أكثر من الشرح، وعلى المفارقة أكثر من التسلسل الكلاسيكي، ما يجعل المتلقي شريكًا في إنتاج المعنى لا مجرد متفرج سلبي.
كما يحمل الفيلم بعدًا ذاتيًا واضحًا، إذ يُنظر إليه غالبًا كعمل يعكس رؤية نبيل لحلو نفسه للسينما وللمجتمع. فالشخصية الرئيسية تعيش اغترابًا داخليًا، وتشعر بالاختناق داخل واقع يومي باهت، فلا تجد مخرجًا سوى الهروب إلى الخيال، أو إعادة تشكيل الواقع عبر الوهم. هنا تتحول السينما إلى فعل مقاومة، وإلى مساحة للقول الحر، في زمن كانت فيه مثل هذه الطروحات نادرة في الإنتاج السينمائي المغربي.
ورغم أن الفيلم لم يحظَ عند صدوره بانتشار جماهيري واسع، بسبب جرأته واختلافه عن السائد، فإنه مع مرور الزمن أصبح يُصنّف كعمل cult في الذاكرة السينمائية المغربية، ومرجعًا لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن السينما التجريبية والبديلة. وقد ساهم في تكريس صورة نبيل لحلو كمخرج “مشاكس”، لا يساوم على رؤيته الفنية، ولا يخضع لمنطق السوق أو التوقعات الجاهزة.
إن «الحاكم العام لجزيرة الشاكرباكربن» ليس فيلمًا يُشاهد مرة واحدة وينتهي أثره، بل تجربة فكرية وبصرية تظل مفتوحة على التأويل، وتدعونا إلى إعادة طرح الأسئلة نفسها: من يحكم من؟ وأين تبدأ السلطة وأين تنتهي؟ وهل الهروب إلى الخيال خلاص أم شكل آخر من أشكال الاستسلام؟ هكذا، وبعد أكثر من أربعة عقود، ما تزال جزيرة الشاكرباكربن حاضرة، لا كجزيرة منسية، بل كمرآة تعكس عبث العالم، وقلق الإنسان، وجرأة سينما اختارت أن تقول ما لا يُقال.




