
خلال الأيام الأخيرة، تحوّل اسم شخص غاني يُطلق على نفسه لقب “أبو نوح” إلى مادة جدل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام دولية، بعد ادعائه أن العالم مقبل على طوفان شامل يوم 25 ديسمبر 2025، زاعمًا أنه تلقّى “وحيًا إلهيًا” يُلزمه بتحذير البشرية وبناء سفن للنجاة، على غرار قصة نبي الله نوح عليه السلام.
هذا الادعاء، الذي انتشر بسرعة قياسية عبر مقاطع مصورة ومنشورات عاطفية، أثار موجة خوف وارتباك لدى فئات من الناس، خصوصًا في البيئات الهشة اجتماعيًا، قبل أن يتبيّن، مع حلول التاريخ المزعوم، عدم وقوع أي حدث استثنائي، ما أعاد فتح النقاش حول ظاهرة النصب الديني بصيغتها الرقمية الجديدة.
القضية، كما تناولتها مصادر إعلامية متعددة، لا تتعلق فقط بشخص يدّعي الغيب، بل تكشف عن أسلوب احتيالي متطور يعتمد على عناصر نفسية وإعلامية دقيقة: استغلال الرموز الدينية الكبرى، اختيار تواريخ ذات حمولة رمزية، توظيف منصات التواصل لبناء جمهور واسع، ثم خلق شعور بالخطر الوجودي والاستعجال لدفع الناس إلى الانخراط ماديًا أو معنويًا.
ومن بين أبرز طرق النصب الجديدة التي عكستها هذه القضية: تسويق الخوف بدل بيع الوهم التقليدي، الاعتماد على البث المباشر والفيديوهات القصيرة لبناء ثقة زائفة، إيهام المتابعين بالانتماء إلى “جماعة مختارة” ستنجو من الهلاك، ثم تغيير الرواية بعد فشل النبوءة عبر ادعاء “التأجيل الإلهي” أو “الرحمة بسبب الدعاء”، وهي تقنيات معروفة في خطاب التضليل الديني.
وتشير معطيات متداولة على نطاق واسع في منصات التواصل الاجتماعي وبعض التغطيات الإعلامية إلى أن “أبو نوح” لم يكتفِ بإطلاق نبوءة الطوفان، بل حوّل خطابه التحذيري إلى مورد مالي ضخم، بعدما دعا أتباعه ومتعاطفين معه إلى التبرع بمبالغ مالية كبيرة بدعوى تمويل بناء “سفن النجاة”، وهي الدعوة التي يُقال إنها أسفرت عن جمع ملايين الدولارات خلال فترة وجيزة، في غياب أي شفافية حول أوجه صرف هذه الأموال أو الجهات المشرفة عليها.
وما زاد من حدة الجدل، هو شروعه، بالتوازي مع خطاب “الهلاك الوشيك”، في تقديم إشهارات تجارية مدفوعة عبر حساباته الرقمية، شملت شركات ومطاعم، بل وصل الأمر إلى الترويج لمطعم يدعو لحضور احتفالات عيد الميلاد يوم 25 ديسمبر، وهو اليوم نفسه الذي حدده موعدًا للطوفان المزعوم، في تناقض صارخ بين خطاب التخويف وسلوك الترفيه والتسويق.
الأكثر إثارة للانتباه، حسب ما أظهرته مقاطع مصورة متداولة، هو قيامه باقتناء سيارة فاخرة من نوع “مرسيديس” موديل 2025، قُدّر ثمنها بحوالي 90 ألف دولار، مبررًا ذلك بما وصفه بـ“متعة قليلة قبل الطوفان”، وهو تصريح اعتبره كثيرون دليلًا إضافيًا على تحول النبوءة إلى أداة استهلاك واستعراض بدل أن تكون رسالة تحذير أخلاقي أو ديني.
دينيًا، يجمع علماء ومختصون على أن ادعاء معرفة الغيب أو تحديد مواعيد الكوارث الكونية أمر مرفوض عقديًا، ولا يستند إلى أي نص صحيح أو مرجعية دينية معتبرة، كما أن ربط النجاة بأشخاص أو جماعات بعينها يُعد انحرافًا خطيرًا عن جوهر الإيمان. أما علميًا، فلا توجد أي مؤسسة أرصاد أو مركز أبحاث مناخية أو فلكية في العالم تحدثت عن طوفان عالمي وشيك، وهو ما يجعل هذه الادعاءات عارية تمامًا من أي سند علمي.
إن ما حدث مع “أبو نوح” الغاني لا يمكن اعتباره حالة معزولة، بل هو إنذار واضح بظهور أشكال جديدة من الاحتيال العاطفي الرقمي، حيث لم يعد النصب مرتبطًا فقط بالمال المباشر، بل أصبح قائمًا على اختطاف وعي الناس، وزرع الخوف، وتوجيه السلوك الجماعي عبر سرديات كاذبة تُغلّف بلباس ديني أو إنساني، ما يفرض تعزيز الوعي الإعلامي والديني، وتشديد الرقابة على المحتوى المضلل، حمايةً للمجتمعات من موجات “أنبياء الوهم” و”منقذي آخر الزمان”.







