يُعدّ فن الملحون أحد أعمدة التراث الثقافي المغربي، وشكلًا فنيًا فريدًا جمع بين الشعر والغناء والحكمة الشعبية، ليصوغ وجدانًا جماعيًا ظلّ حيًا لقرون. نشأ هذا الفن في أحضان المدن العتيقة، وتحديدًا في فاس ومكناس ومراكش وسلا، حيث كان الحرفيون والفقهاء والمتصوفة ينظمون قصائده في الأسواق والزوايا، قبل أن تتحول إلى تراث شفهي تتناقله الأجيال.
أصل الملحون يعود إلى الشعر الشعبي المنظوم الذي استعمل الدارجة المغربية في قالب موزون مضبوط، دون أن يتخلّى عن البلاغة والعمق. وقد شكّل هذا الاختيار اللغوي جسرًا بين الثقافة العالِمة والثقافة الشعبية، فجعل من الملحون فنًا قريبًا من الناس، لكنه شديد الثراء في المعنى والبناء.
عرف الملحون عبر تاريخه أسماء كبيرة حفرت أسماءها في الذاكرة الفنية المغربية، سواء شعراءً أو منشِدين. ومن أبرز روّاده الذين حملوا هذا الفن إلى الذروة الحاج الحسين التولالي، الذي يُعدّ أحد أعمدته الكبرى، بصوته الوقور وأدائه المتقن، وقدرته على إيصال الحكمة دون تكلّف. وإلى جانبه يبرز اسم الحاج محمد بن علي، والشيخ الجيلالي امتيرد، والشيخ عبد السلام الخياطي، وغيرهم ممن صانوا النص واللحن والأداء.
كما لا يمكن الحديث عن الملحون دون ذكر المجالس والمدارس الشفوية التي احتضنته، حيث كان التعلّم يتم بالتلقين والمشافهة، في علاقة مباشرة بين الشيخ والمريد، وهو ما منح هذا الفن بعدًا تربويًا وأخلاقيًا، قبل أن يكون ترفيهًا أو عرضًا فنيًا.
بلغ فن الملحون أوج إشعاعه خلال القرن العشرين، حين وجد له مكانًا في الإذاعة الوطنية، وفي السهرات الثقافية، والمواسم الدينية، فكان حاضرًا في الوعي الجماعي للمغاربة، ومكوّنًا أساسيًا من مكوّنات هويتهم الفنية. غير أن هذا الحضور بدأ يتراجع تدريجيًا مع تحولات الذوق العام، وهيمنة الأشكال الفنية السريعة، وتراجع دور الإعلام العمومي في التعريف بالتراث اللامادي.
اليوم، يعيش الملحون حالة خفوت مقلقة، ليس بسبب فقدان قيمته، بل نتيجة قلة المنابر، وندرة الأصوات الجديدة التي تحمل شروطه الصعبة من حفظٍ وصبرٍ ومعرفةٍ لغوية وموسيقية. فقد أصبح حضوره محصورًا في مهرجانات موسمية محدودة، أو في مناسبات رسمية، بدل أن يكون جزءًا حيًا من المشهد الثقافي اليومي.
إن التحسّر على تراجع الملحون ليس حنينًا عاطفيًا إلى الماضي، بل قلقًا ثقافيًا مشروعًا على فنّ يحمل في طيّاته ذاكرة مجتمع، وقيمًا أخلاقية، ونظرة متوازنة إلى الحياة. فالملحون، في جوهره، ليس مجرد غناء، بل خطاب إنساني راقٍ، يُعلّم قبل أن يُطرب، ويُهذّب الذوق قبل أن يُمتع السمع.
ويبقى الرهان اليوم معقودًا على إعادة إدماج الملحون في الفضاء التعليمي والإعلامي، وتشجيع المواهب الشابة على الاقتراب منه دون تشويه، وتوفير شروط العيش الكريم لشيوخه وحملته، حتى لا يتحول هذا الفن العريق إلى مجرد مادة أرشيفية.
ففنّ الملحون لا يستحق أن يُزار في الذاكرة فقط، بل أن يُسمَع ويُعاش من جديد، باعتباره صوت الحكمة المغربية حين كانت تُغنّى بوقار.







