
يُعدّ الدكتور المهدي المنجرة واحداً من أعظم العقول المغربية والعربية في القرن العشرين، ورمزاً فكرياً وإنسانياً استثنائياً جمع بين الرؤية المستقبلية العميقة والخبرة الدبلوماسية الرفيعة، وبين الصراحة التي لا تُهادن والجرأة التي لم يقبل بسببها الحسابات الضيقة، ليصبح صوتاً معرفياً نادراً سبَق عصره في التحذير من اختلالات النظام العالمي وهيمنة القوى الكبرى على شعوب الجنوب. فقد وُلد المنجرة يوم 13 مارس 1933 بالرباط، في بيت عريق عرف العلم والتجارة والانفتاح المبكر على قضايا التجديد، وكان لوالده – التاجر المعروف الذي أسس أول نادٍ عربي للطيران في العشرينيات – أثرٌ كبير في صقل شخصيته، فشبَّ المنجرة على الانضباط وحب المعرفة والإيمان العميق بالمستقبل. تعلّم في مدرسة أبناء الأعيان المسلمين، ودرس العربية في البيت على أيدي كبار العلماء، ثم انتقل إلى ثانوية ليوطي حيث دخل مبكراً في صدام مع أساتذة فرنسيين بسبب مواقفه الوطنية الرافضة للاستعمار، بل اعتُقل بعد رده العنيف على أستاذ استفزه بعنصرية فجّة.
في أوائل الخمسينيات غادر إلى الولايات المتحدة، حيث تابع دراسته بجامعة كورنيل في العلوم السياسية، ثم إلى بريطانيا حيث حصل على دكتوراه العلاقات الدولية من مدرسة لندن للاقتصاد، فامتلك بذلك تكويناً علمياً عابراً للثقافات جعله من أوائل العرب الذين تخصصوا في الدراسات المستقبلية بمنهج علمي رصين. وبعد عودته للمغرب، شغل في 1958 منصب مدير الإذاعة والتلفزيون المغربي، ثم أصبح مستشاراً أولاً في الوفد الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، قبل أن يبدأ مساره الأممي الطويل داخل منظمة اليونسكو منذ سنة 1961، حيث تقلّد مناصب حساسة: رئيس قسم إفريقيا، مدير مكتب المدير العام، مساعد المدير العام لقطاع العلوم الاجتماعية والإنسانية والثقافة، ثم مساعد المدير العام للبرمجة والدراسات المستقبلية، فمستشاراً خاصاً لليونسكو وللأمم المتحدة في قضايا التنمية والتعاون جنوب–جنوب ومكافحة المخدرات وقضايا الإعاقة. مكّنته هذه المواقع من الاحتكاك المباشر بصنّاع القرار العالمي ورصد التحولات الكبرى في بنية النظام الدولي، وهي التجربة التي أثْرت لاحقاً كتبه وتحليلاته.
إلى جانب ذلك، درّس المنجرة العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس، وأسّس الجمعية المغربية للدراسات المستقبلية، وترأس منظمات فكرية عالمية مثل الاتحاد العالمي لدراسات المستقبل ومؤسسة Futuribles، وكان أحد مؤسسي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، فجمع بذلك بين الفكر والممارسة، وبين البحث الأكاديمي وخدمة الشأن العام.
أما إنتاجه الفكري فكان ثورة معرفية في حد ذاته؛ فقد ترك عدداً من الكتب الفارقة التي ما تزال تُقرأ حتى اليوم، أبرزها: “الإهانة في عهد الميغا-إمبريالية” حيث حلّل آليات الإذلال التي يمارسها الشمال على الجنوب، و**”الحرب الحضارية الأولى”** الذي ناقش فيه طبيعة الصراع غير المتكافئ بين القوى المهيمنة والشعوب المستضعفة، و**”قيمة القيم”** الذي اعتبر فيه أن أي مشروع نهضوي لا يقوم على منظومة قيمية صلبة محكوم عليه بالسقوط، و**”زمن الذلقراطية”** الذي قدّم فيه نقداً لاذعاً للديمقراطية الشكلية التي تُستعمل كقناعٍ لهيمنة اقتصادية وثقافية. وقد سبق المنجرة في طرحه الكثير من المفكرين الغربيين الذين تحدثوا لاحقاً عن صدام الحضارات، لأنه وضع مبكراً معالم فهمٍ جديد للعلاقات الدولية يقوم على السيطرة الرمزية، والقوة الناعمة، والتدجين الثقافي، واحتكار المعرفة بوصفها سلاح القرن الجديد.
ورغم مقامه العالمي، لم يخلُ مساره من التوتر داخل وطنه؛ فقد تعرّض لتهميش غير معلن، وإلغاء لمحاضراته، وتقليص لحضوره في الإعلام العمومي، بسبب مواقفه الجريئة من قضايا التعليم واللغة والحريات والاختيارات الاستراتيجية للدولة. ومع ذلك ظل المنجرة وفياً لبلده وقضاياه، رافعاً صوته دفاعاً عن اللغة العربية، وعن استقلال القرار الوطني، وعن كرامة الإنسان المغربي والعربي. وكان يرى أن التبعية اللغوية والثقافية أشد خطراً من التبعية الاقتصادية، لأنها تفقد الشعوب قدرتها على التصور والإبداع وصناعة المستقبل.
وقد انشغل المنجرة بالسؤال المصيري: إلى أين يسير العالم العربي؟ وكان يؤكد أن أزمتنا ليست اقتصادية فقط، بل هي أزمة قيم قبل كل شيء؛ أزمة وقت، وأزمة صدق، وأزمة مسؤولية، وأزمة تعليم لا يواكب العصر. وكان يرى أن العالم يتجه نحو أشكال جديدة من الهيمنة، تقوم على الإعلام والمعرفة أكثر من السلاح؛ وأن الشعوب التي لا تمتلك مشروعاً معرفياً وقيمياً ستظل تابعة مهما تغيّرت الظرفيات. ودعا إلى رؤية مستقبلية طويلة الأمد، وإلى إصلاح تعليمي جذري يربط بين التفكير الحر وبناء الإنسان القادر على مواجهة العولمة المتوحشة.
ورحل المنجرة يوم 13 يونيو 2014، لكنه لم يرحل من ذاكرة المغرب والعالم العربي؛ فما زالت كتبه تدرّس، وأفكاره تُستشهد بها في فهم النظام العالمي، وصوته يُستحضر كلما احتدم النقاش حول العولمة، والهوية، والتعليم، والقيم. وقد أطلقت مؤسسات مغربية جوائز تحمل اسمه مثل جائزة المهدي المنجرة لجودة التربية والبحث تخليداً لإرثه. لقد مثّل هذا المفكر الكبير نموذج المثقف الكوني الذي جمع بين الخبرة الدولية والانتماء الوطني، وبين النقد العميق والإيمان بالإنسان، وبين التحذير من المستقبل والدعوة إلى امتلاكه. والكتابة عنه ليست استعادة لسيرة شخصية فقط، بل هي استحضار لمشروعٍ كامل يدعو إلى بناء مستقبل تصنعه الشعوب بقيمها ولغتها وكرامتها، لا بمقاييس غيرها ولا بتوقعات الآخرين.











