منوعات

ما بين الكابالا والماشيح ونهاية العالم: عقائد خفيّة في المخيال الديني اليهودي ومقارنتها بالمسيحية والإسلام

حين يتحدّث كثيرون عن اليهودية، ينحصر تصورهم في التوراة، والشعب المختار، والهالاخاه بوصفها الشريعة الظاهرة، بينما تبقى طبقة كاملة من التصوّرات الباطنية الغائرة في أعماق الفكر اليهودي شبه مجهولة خارج الدوائر الحاخامية والقبّالية الضيقة. هذه الطبقة العميقة لا تكتفي بتنظيم السلوك الديني، بل تقدّم تفسيرًا كونيًا للخلق، والشر، والمصير، ونهاية التاريخ، وتقوم في جوهرها على ثلاث أفكار مترابطة: خلل أصاب الوجود في لحظة التكوين الأولى وواجب إصلاحه فيما يُعرف بتيكون عولام، ثم الكابالا العملية التي تمزج بين الأسماء المقدسة والممارسة ذات الطابع الغيبي، وأخيرًا عقيدة الماشيح ونهاية الأزمنة، كما تتجلّى في اليهودية وتُقارن بما جاء به كل من المسيحية والإسلام.

في التصوّر القبّالي، وبخاصة في المدرسة اللوريانية المنسوبة إلى الحاخام إسحاق لوريا في القرن السادس عشر، يُعاد تفسير خلق العالم بلغة رمزية عميقة، حيث يُقال إن النور الإلهي حين أُفيض في أوعية روحية لم تحتمل بعض هذه الأوعية شدّته فانكسرت، وتبعثرت شرارات من ذلك النور في العوالم السفلية، واختلطت بما يُعرف بالقشور، أي قوى الظلمة والشر. ومن هذا الحدث الكوني وُلد مفهوم تيكون، أي إصلاح العالم، بوصفه مشروعًا روحيًا مستمرًا غايته إعادة جمع تلك الشرارات إلى أصلها الأول. ومن ثمّ يصبح الإنسان، واليهودي على وجه الخصوص في هذا التصور، مكلّفًا بالمشاركة في هذا الإصلاح عبر التزام الوصايا، والمحافظة على الطقوس، وتحقيق النية الروحية في أدق تفاصيل الحياة اليومية. وبهذا المعنى لا يعود الفعل الديني مجرد طاعة شكلية، بل يتحول إلى لبنة كونية في إعادة التوازن بين النور والظلمة. ومن هنا تتخذ فكرة الرسالة طابعها الميتافيزيقي العميق، لا باعتبارها تفضيلًا عِرقيًا، بل باعتبارها تكليفًا كونيًا ثقيلًا. ومع الزمن، جرى في اليهودية الحديثة تبسيط هذا المفهوم وتحويله إلى شعار اجتماعي أخلاقي يتعلّق بالعدالة وخدمة المجتمع وحقوق الإنسان، غير أن جذوره القبّالية تظل أعمق بكثير من مجرد فعل الخير بمعناه المتداول.

وبموازاة هذا البعد التأملي، نشأت عبر التاريخ اليهودي ممارسة أشد غموضًا وخطرًا عُرفت بالكابالا العملية، وهي توظيف المعرفة الباطنية في كتابة التمائم، وتلاوة الصيغ الحروفية، واستعمال الأسماء الإلهية والملائكية لطلب الحماية أو الشفاء أو التأثير في بعض الوقائع. وقد أشارت مصادر عديدة إلى أن هذه التمائم كانت تُكتب على رقاعٍ أو معادن أو أحجار شبه كريمة وتعلّق في الأعناق أو البيوت، وفق ترتيب دقيق للحروف يُعتقد أنه يعكس بنية العالم غير المرئي. غير أن عددًا من كبار الحاخامات حذّروا بشدّة من هذه الممارسات، وعدّوها بابًا خطِرًا قد ينزلق إلى السحر المحرَّم، ولا يجوز الخوض فيه إلا لمن بلغ درجة قصوى من الطهارة والعلم. ولهذا ظلّ التمييز قائمًا في الفكر اليهودي بين كابالا تأملية تبحث في سرّ الوجود والخالق، وكابالا عملية توظّف الأسماء والرموز في أفعال ذات أثر غيبي، وبقيت هذه الأخيرة محاطة بسياج من السرّية والحذر، لا تُكشف تفاصيلها للعامة.

أما ذروة التصوّر التاريخي في اليهودية فتتجلى في عقيدة الماشيح، أي المسيح المنتظر، الذي يُنظر إليه في الفكر اليهودي الكلاسيكي بوصفه ملكًا من نسل داود، يأتي في آخر الزمان ليجمع اليهود، ويُقيم السلام العادل، ويُعيد تطبيق الشريعة كاملة، ويمهّد لعصر جديد يُبعث فيه الموتى ويُجازى الناس في العالم الآتي. هذا الماشيح في التصوّر اليهودي بشرٌ مكلّف لا يحمل صفة الألوهية. غير أن هذه الصورة تتبدّل جذريًا في المسيحية، حيث يتجسّد الماشيح في شخص يسوع المسيح الذي جاء في المرة الأولى مخلّصًا فاديًا، ويُنتظر في المجيء الثاني بوصفه الإله المتجسّد الذي سيحكم العالم ويدين الأحياء والأموات وتقوم على يديه القيامة ويظهر ملكوت الله في صورته الكاملة. وهكذا تنتقل فكرة المسيح من ملك مصلح إلى إله حاكم في نهاية التاريخ. وفي الإسلام تأخذ القضية بُعدًا ثالثًا مختلفًا، إذ يُؤمن المسلمون بأن عيسى بن مريم عليه السلام نبي كريم من أولي العزم، لم يُصلب بل رُفع حيًا، وسيعود في آخر الزمان لا بوصفه إلهًا ولا صاحب شريعة جديدة، بل مجدّدًا للإيمان، يكسر الصليب، ويقتل المسيح الدجال، ويُقيم العدل، ثم يموت كسائر البشر، لتقع بعد ذلك أهوال القيامة. وترتبط نهاية العالم في الإسلام بمنظومة متكاملة من العلامات الكبرى، ثم النفخ في الصور، والبعث، والحساب، والجنة والنار.

وعلى الرغم من الاختلافات اللاهوتية العميقة بين هذه التصوّرات، فإن خيطًا سرّيًا واحدًا يجمع بينها جميعًا، يتمثّل في الإيمان بأن التاريخ ليس عبثًا، وأن مسيره موجَّه نحو لحظة كبرى تُستعاد فيها العدالة الكاملة. ففي القبّالا هو مسار طويل لإصلاح الخلل الكوني، وفي اليهودية انتظار للماشيح بوصفه لحظة ترميم سياسي روحي تنعكس على العالم كله، وفي المسيحية والإسلام لحظة فاصلة تُطوى فيها صفحة الظلم إلى الأبد بقيامة كبرى وحساب شامل. وهكذا تبدو هذه العقائد، على عمق تباينها، محاولة مشتركة للإجابة عن السؤال الأزلي الذي يلاحق الإنسان في كل زمان ومكان: لماذا يسمح الله باستمرار الشر، وكيف ومتى يُعاد ميزان العدالة إلى نصابه؟

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية. أمين عام الإتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب (فرع المملكة المغربية). أمين سر منظمة أواصر السلام العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا