أراء وكتاب

الحدود الشرقية للمملكة المغربية.. تاريخ مشترك وذاكرة لا تُمحى

منذ قرونٍ طويلة، والمغرب يرسم حضوره في شمال إفريقيا كأمة ضاربة في عمق التاريخ، بحدودٍ تمددت طبيعتها من الأطلس إلى الصحراء، ومن المحيط إلى الشرق، حيث كانت واحات فكيك وتندوف وبشار والقنادسة وعين الصفراء جزءًا لا يتجزأ من الجغرافيا المغربية ومجالها البشري والسيادي. في تلك الربوع كانت القبائل ترفع راية البيعة لسلاطين المغرب، وتعترف بالمخزن كسلطة شرعية ترعى شؤونها وتفرض الأمن في أطرافها.

غير أن حقبة الاستعمار الفرنسي جاءت لتقلب موازين المنطقة، حين عمدت فرنسا، التي كانت تحتل الجزائر، إلى إعادة رسم الحدود وفق منطقٍ استعماريٍّ لا يعترف بالتاريخ ولا بالجغرافيا، بل بالمصالح والإدارة. فكانت اتفاقية لالة مغنية سنة 1845 بين السلطان المغربي عبد الرحمن بن هشام والسلطات الفرنسية محطةً غامضة استُغلّت لتوسيع النفوذ الفرنسي نحو الشرق والجنوب، دون تحديدٍ واضحٍ للحدود الفاصلة. ومع مرور السنوات، استغل الاستعمار ذلك الغموض لاقتطاع مناطق شاسعة من التراب المغربي وضمّها إداريًا إلى الجزائر التي كانت حينها “فرنسية” الهوى والسيادة.

ومع استقلال الجزائر سنة 1962، لم تكن المملكة المغربية تفكر في اقتسام الغنائم أو استعادة الأراضي بقوة السلاح، بل استقبل المغاربة استقلال الجزائر بفرحٍ وافتخار، إذ كانوا جزءًا من معركة تحررها. فقد ساهمت المملكة في دعم الثورة الجزائرية بالسلاح والمال والدبلوماسية، وفتح المغاربة حدودهم وقراهم لإخوانهم المقاومين، إيمانًا منهم بأن الحرية لا تتجزأ وأن الاستعمار عدوٌّ مشترك. ولو كان المغرب يومها يريد المتاجرة بالقضية الجزائرية، أو مساومة فرنسا على حساب استقلال الجزائر، لكانت الحدود اليوم غير الحدود، ولكان التاريخ قد كُتب بوجهٍ آخر. لكن السلاطين والملوك المغاربة اختاروا مبدأ الأخوّة على مبدأ المكاسب، فحافظوا على حسن الجوار رغم اقتطاع جزء من ترابهم الشرعي.

غير أن رياح السياسة ما بعد الاستقلال حملت توتراتٍ مؤسفة، حين تمسكت الجزائر بالحدود التي رسمها الاستعمار ورفضت أي نقاش يعيد الأمور إلى نصابها التاريخي. وحين حاول المغرب تصحيح الخطأ بالطرق السلمية، تفجّر الخلاف في حرب الرمال سنة 1963، والتي لم تكن حربًا بين شعبين شقيقين، بل سوء تقدير من نظام الجزائر الفتيّ آنذاك، دفعته الحسابات السياسية إلى مواجهة بلدٍ كان بالأمس سندًا له في معركة التحرير. ومع ذلك، اختار الملك الراحل الحسن الثاني لغة الحكمة، قائلاً كلمته الشهيرة: «لسنا نطلب شيئًا ليس لنا، وإنما نريد فقط أن يُرَدّ إلينا ما اغتصبته حدود الاستعمار». تجاوز المغرب الجراح ومدّ يده للمصالحة، موقّعًا اتفاقيات التعاون والأخوة، ومؤمنًا بأن التاريخ المشترك أقوى من الخلاف العابر.

ومع مرور العقود، دخلت المنطقة مرحلة جديدة حين صنعت الجزائر على أراضيها كيانًا وهميًا سمّته “البوليساريو”، لتُخفي وراءه أصل النزاع وتحوّله من قضية حدود إلى قضية هوية. لكن المغرب، الذي يدافع عن صحرائه اليوم، إنما يدافع عن مشروعيته التاريخية والسيادية، ويثبت للعالم أنه يطالب بحقه بالوثائق والمعاهدات لا بالشعارات. وقد أثبتت السنوات أن موقف المغرب ثابتٌ في الحق، وأن نزاهته في التعاطي مع الملف أكسبته احترام العالم، حتى تُوِّج المسار الدبلوماسي بقرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي تبنى بوضوح مبادرة الحكم الذاتي كحلٍّ وحيد وواقعي لإنهاء النزاع المفتعل.

ومع هذا النصر الدبلوماسي الكبير، لم يتغيّر جوهر السياسة المغربية تجاه الجزائر، إذ ظلّ جلالة الملك محمد السادس مؤمنًا أن المستقبل لا يُبنى بالجدران المغلقة، بل بالأيادي الممدودة. ففي خطاباته المتكررة، دعا الأشقاء الجزائريين إلى تجاوز خلافات الماضي، قائلاً: «لا غالب ولا مغلوب، نحن جيران يلزمنا أن نجلس ونتحدث، ونرى أين مكمن الخلل، ونتصالح من أجل لمّ شعبين يتقاسمان كل شيء». كلماتٌ تختزل جوهر الحكمة المغربية في التعاطي مع التاريخ والسياسة معًا: حزم في المبدأ، وكرم في الموقف.

لكن اللافت في السنوات الأخيرة هو الدور السلبي الذي يمارسه الإعلام الجزائري الرسمي، إذ انخرط في خطابات التجييش والتحريض، وجعل من مهاجمة المغرب مادةً يومية، يزرع بها الكراهية بين شعبين جمعتهما العروبة والدين والتاريخ المشترك. ومع ذلك، ظلّ الإعلام المغربي، رغم كل الحملات العدائية، وفيًّا لنهج الاعتدال والمسؤولية، ملتزمًا بسياسة المملكة القائمة على ضبط النفس واحترام الجوار. فالمغاربة يرون في الجزائر، لا خصمًا، بل بلدًا شقيقًا يسكن وجدانهم كرمزٍ للأخوّة والعروبة، يجمعهم به الدم واللغة والمصير الواحد. ومن هذا المنطلق، لم يسقط الإعلام المغربي في فخّ التصعيد أو الرد بالمثل، بل اتبع نهج بلده المضياف الكريم الذي يؤمن أن الكلمة المسؤولة أسمى من الضجيج، وأن الحقيقة أقوى من الافتراء.

إن المغرب لا ينكر ما سلخ الاستعمار من أرضه، لكنه أيضًا لا ينسى من قاتلوا إلى جانبه وسالت دماؤهم معه ضد المحتل. فالتاريخ المغربي الجزائري ليس فقط حدودًا متنازعًا عليها، بل صفحاتٌ من النضال المشترك والأخوّة والدم الواحد. والمغرب اليوم، وهو يرسّخ سيادته في الصحراء ويكسب دعم العالم لعدالة قضيته، لا ينظر شرقًا بعين الغضب، بل بعين الأمل، لأن الشعوب لا تُقسَّم بخطوطٍ رسمها الاستعمار، ولأن المستقبل لا يُبنى إلا بالمصالحة.

لقد أثبت المغرب أن دفاعه عن صحرائه هو دفاع عن شرعيته، وأن ثباته في مواقفه هو صونٌ لتاريخه. واليوم، وقد انحاز المجتمع الدولي إلى واقعية الحل المغربي، بات من الواجب أن تعود لغة الأخوة والعقل إلى طاولة الجوار، لطيّ صفحة الماضي، وفتح أفقٍ جديدٍ من التعاون بين بلدين جمعتهما الثورة، وفرّقتهما السياسة، وما زال بينهما جسرٌ من التاريخ والمصير المشترك يمكن أن يُعاد بناؤه بالحوار والنية الصادقة.

وفي ختام هذا المسار الطويل من التوتر وسوء الفهم، يبقى الأمل في أن الحوار الصريح الهادئ بين المغرب والجزائر يمكن أن يعيد رسم مستقبل المنطقة، ويؤسس لقيام مغربٍ عربيٍّ قوي على غرار أكبر الاقتصاديات الإقليمية في العالم. فالمكسب الجغرافي الهائل، والثروة البشرية المشتركة، والقدرات الاقتصادية المتكاملة، كفيلة بأن تجعل الاتحاد المغاربي قوةً مزدهرة ورائدة، إذا ما أُعيد بناء الثقة وفتح باب المصالحة بصدقٍ وشجاعة. فالأرض التي جمعت الدماء في ساحات المقاومة، قادرة أن تجمع العقول في ميادين التنمية والنهضة، من أجل غدٍ مغاربيٍّ واحد، مزدهر ومستقر.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا