تعليمثقافة وفن

العوالم الخفية بين الديانات: الجنّ والحنّ والبنّ وما شابههم عبر التاريخ

ميتافيزيقا

منذ فجر الوعي البشري، شغلت الكائنات غير المرئية خيال الإنسان وأشكّلت جزءًا أصيلًا من معتقداته. بين ما نُسب إلى الوحي وما دوّنه القصّاص، ظلّ الاعتقاد بوجود عوالم موازية يعيش فيها مخلوقات غير الإنس والملائكة ثابتًا في تراث الأمم. وفي مقدّمة هذه التصوّرات يبرز عالم الجنّ في الإسلام، وما ارتبط به في المرويات القديمة من أممٍ سابقة تُعرف باسم الحنّ والبنّ، إلى جانب نظرائهم في الديانات والحضارات الأخرى من الشياطين والأرواح والدايمون والراكشاسا والدايفات وغيرها.

الجنّ في الإسلام:
يُجمع المسلمون على أنّ الجنّ مخلوقات خُلقت من «مارجٍ من نار»، أي من لهبٍ صافٍ بلا دخان، كما ورد في القرآن الكريم:

> «وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ» (الرحمن: 15)،
وقال تعالى أيضًا:
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات: 56).

وقد أثبتت السنّة ذلك بحديث النبي ﷺ: «خُلِقتِ الملائكةُ من نور، وخُلِقَ الجانُّ من مارجٍ من نار، وخُلِقَ آدمُ مما وُصفَ لكم» (رواه مسلم).
يتميّز الجنّ بالعقل والاختيار، فيهم المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، ويُحاسبون كما يُحاسَب الإنس. قال ابن تيمية: «لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمداً ﷺ إليهم».

الحنّ والبنّ في المرويات الإسلامية

ورد ذكر الحنّ والبنّ في بعض كتب التفسير والقصص القديمة، لا سيّما في البداية والنهاية لابن كثير الذي نقل قولًا عن عدد من المفسرين:

> «إن الله تعالى خلق الجن قبل آدم، وكان في الأرض قبلهم الحنّ والبنّ، فسلّط الله الجنّ عليهم فقتلوهم وسكنوا الأرض بعدهم».

وتنسب بعض الروايات إلى عبد الله بن عمر قوله: «كانت الحنّ والبنّ قبل آدم بألفي عام، فسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم ملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور».
غير أن المحدثين والعلماء المعاصرين، مثل علماء موقع “الإسلام سؤال وجواب”، يرون أن هذه الأخبار لا سند صحيح لها، وأنها أقرب إلى الحكايات التراثية التي لا تُبنى عليها عقيدة، لعدم ورود نصّ قرآني أو حديث نبوي يثبتها.

ومع ذلك، بقيت الفكرة مؤثرة في الخيال الشعبي العربي، باعتبارها محاولة لتفسير ما كان قبل خلق الإنسان: دورة أممٍ خُلقت ففسدت فبادت، لتترك الأرض لمخلوقاتٍ جديدة.

الكائنات الماورائية في الديانات الأخرى
اليهودية:
عرفت الديانة اليهودية كياناتٍ تُشبه الجنّ؛ منها السَّعِيريم (Se’irim)، أي “شياطين الماعز”، التي ورد ذكرها في سفر اللاويين (17: 7):

> «ولا يذبحوا بعد ذبائحهم للتيوس التي هم يزنون وراءها».

كما يذكر التلمود أرواحًا تُسمّى الشِّدِّيم (Shedim)، خُلقت عند الشفق قبل انتهاء أيام الخلق، ولها صفات وسط بين الإنسان والملاك: تراها بعض المرويات أرواحًا شريرة تسبب الأذى للبشر.
هذه المفاهيم عبّرت عن تصورٍ بوجود كائنات بينية غير بشرية، بعضها خيّر وأكثرها مخرّب.

المسيحية:
ورثت المسيحية فكرة الشيطان والأرواح الشريرة من الموروث العبري وطوّرته. يظهر في الأناجيل أن المسيح عليه السلام طرد الأرواح الشريرة من الناس، وأن الرسل واصلوا هذه الممارسة ضمن طقس “طرد الشياطين” (Exorcism).
وفي اللاهوت المسيحي، تحوّل مصطلح الشيطان (دِيامون/ديمن) من معناه اليوناني المحايد “روح” إلى رمز للشرّ المطلق المعادي لله. وتؤكد الكنائس التقليدية حتى اليوم وجود قوى روحية خيّرة (الملائكة) وأخرى شريرة (الشياطين).

الزرادشتية:
في ديانة زرادشت بإيران القديمة تتجسّد الثنائية الكونية بين الخير والشر:

إله النور أهورا مزدا،
وقوة الظلام أنغرا مينو/أهريمن.

معه جند الشرّ المعروفون باسم الدايْفَة (Daevas)، في مقابل كائنات النور اليَزَتَات (Yazatas) التي تعين البشر والآلهة الخيّرة.
تأثرت اليهودية اللاحقة والديانات الإبراهيمية بهذه الثنائية الفارسية في تصورها للشيطان وجنوده.

الهندوسية والبوذية:
يضمّ الفكر الهندوسي طيفًا واسعًا من الكائنات الروحية:

الراكشاسا (Rakshasa): أرواحٌ مفترسة قادرة على التحوّل، تعادي الآلهة وتهاجم البشر؛ وأشهرها رافانا خصم الإله راما في الملحمة رامايانا.

اليَكشا (Yaksha): أرواح الطبيعة وحُرّاس كنوز الأرض، تتأرجح بين الخير والشرّ.

الفِيتالَا (Vetāla): أرواحٌ تسكن الجثث وتتحكم فيها، ورد ذكرها في القصص الهندية القديمة كرمزٍ بين الحياة والموت.

أما البوذية فحوّلت بعضها إلى رموزٍ أخلاقية؛ إذ تتحدث عن كائنات “الجائعين” پِريتَا (Preta)، وهي أرواح المعاناة الناتجة عن الطمع، تُقام لها طقوس عيد الأشباح الجائعة للتخفيف عنها.

الصين والطاوية:
في الفكر الصيني، يميّز الناس بين شِنّ (أرواح سماوية طيبة) وغُوِي (أرواح مضطربة أو شريرة). وتُقام خلال الشهر السابع القمري طقوس تهدئة الأرواح “مهرجان الأشباح الجائعة”.
كما يظهر في الأساطير الصينية “جونغ كُوِي”، صائد الأشباح الذي يرمز إلى سيطرة الخير على قوى الظلمة.
تتداخل هنا البوذية والطاوية في رؤية العالم كنسيجٍ من الطاقات والأرواح المتفاعلة مع الإنسان.

اليونان والرومان:
في الفلسفة اليونانية القديمة، كانت كلمة دايمون (Daimon) تعني “روحًا” أو “قوة إلهية وسيطة” بين البشر والآلهة، ولم تكن شريرة بالضرورة.
ذكر أفلاطون في المأدبة أن الأرواح وسيطة تنقل القرابين والشرائع بين العالمين، وقال سقراط إنّ له “دايمونيون” يُحذّره من الخطأ.
ثم جاء العصر الروماني ليجعل من الجِنيُس (Genius) واللارات (Lares) أرواحًا حامية للبيوت والأشخاص، قبل أن تتحوّل المفردات لاحقًا إلى معنى الشيطان في التراث المسيحي اللاتيني.
مقارنة وشواهد متقابلة

يتضح أنّ جميع هذه المعتقدات، على اختلاف مصادرها الجغرافية والدينية، تشترك في إيمانٍ غريزي بوجود عوالم خفية وكائناتٍ “بينيّة” تتجاوز الحسّ البشري.
فالجنّ في الإسلام والشدّيم في اليهودية والشياطين في المسيحية والدايفات والراكشاسا في الهندوسية والغُوِي في الصين والدايمون في اليونان، كلّها تعبّر عن إدراك الإنسان لعناصر الخير والشرّ الماورائيين.

أما “الحنّ والبنّ”، فتبقى فكرةً إسلامية محضة ضمن دائرة الروايات التفسيرية لا النصوص القطعية، تُقابل من حيث الوظيفة تلك الكائنات السالفة التي سكنت الأرض ثم بادَت في الأساطير الأخرى، كـ “الأطلانتيين” أو “التيتان” أو “أرواح ما قبل الإنسان”.

من خلال تتبّع المأثورات الدينية والقصص الموروثة، نلحظ خيطًا واحدًا يجمع البشرية: الإيمان بأن وراء العالم المادي قوى خفيّة تتفاعل مع الإنسان وتؤثر في مصيره.
لكن الإسلام انفرد بتحديدٍ واضح: الجنّ مخلوقات عاقلة مكلّفة بالعبادة، لا تُرى ولكنها موجودة، أمّا ما عداهم من الحنّ والبنّ ونظرائهم في الأساطير الأخرى فتبقى أخبارًا لا يُؤخذ منها إلا ما يوافق الوحي الصحيح.
وهكذا يظلّ عالم الجنّ، بما يثيره من رهبة وغموض، الحدّ الفاصل بين العلم بالغيب والإيمان به، وبين الأسطورة التي تسكن خيال الأمم منذ أول حكايةٍ رُويت على وجه الأرض.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا