ثقافة وفن

القزويني.. رائد العجائب الذي كتب دهشة العالم قبل سبعة قرون

قراءة في كتاب

في زمنٍ كانت فيه أوروبا تغرق في عصور الظلام، كتب عالم مسلم من مدينة قزوين موسوعةً مدهشة جمع فيها العلم والفلك والطبيعة والأسطورة في عملٍ واحدٍ خالد، عنوانه:
«عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات».
إنه الإمام زكريا بن محمد القزويني (المتوفى سنة 682 هـ / 1283م)، أحد أعلام الفكر الإسلامي في القرن الثالث عشر، والرائد الذي استطاع أن يجعل من الدهشة علمًا، ومن الغرابة طريقًا إلى معرفة الخالق.

بين العلم والإيمان:
ألّف القزويني كتابه في زمنٍ كان العقل الإسلامي يبحث فيه عن التوازن بين الدين والعلم.
فجاء كتابه موسوعة في الفلك والجغرافيا والطبيعة والحيوان والإنسان، لكن بروحٍ إيمانيةٍ تُظهر عظمة الخالق في كل تفصيل من تفاصيل الكون.
لم يكتب القزويني “للتسلية” ولا للغرابة المجردة، بل كان يقصد أن يجعل من “العجب” وسيلة للتأمل في نظام الوجود.

يقول في مقدمته:
«من نظر في عجائب المخلوقات، ازداد علمًا بعظمة الخالق، لأن كل ذرةٍ فيها آية، وكل موجودٍ فيه حكمة.»

محتوى الكتاب وهيكله:
قسّم القزويني موسوعته إلى قسمين كبيرين:
السماء وما فيها، والأرض وما عليها.
وفي كل قسمٍ أبوابٌ تتناول ظواهر الطبيعة والكائنات والمخلوقات والظواهر الغامضة.
وقد جمع في كل باب ما توصل إليه العلماء في عصره، وأضاف إليه مشاهداته ومروياته وما تناقله الرحالة والبحّارة والفقهاء.

القسم الأول: في السماوات والنجوم:
يتحدث القزويني عن بنية الكون، وعن الأفلاك السبعة التي كان يُعتقد أنها تدور حول الأرض.
يصف الكواكب وألوانها وتأثيراتها، ويتحدث عن النجوم الثابتة والمذنبات والشهب والنيازك، وعن اختلاف الليل والنهار، ومواسم المطر والريح، ومواقع الأبراج.
وفي كل فصلٍ يربط بين هذه الظواهر والآيات القرآنية التي تدعو للتفكر في السماوات.
يقول:
«لو لم يكن في السماء إلا هذا النظام البديع بين الشمس والقمر والنجوم، لكفى دليلاً على تدبيرٍ عظيمٍ لا تدركه العقول.»

القسم الثاني: في الأرض ومخلوقاتها:
ينتقل القزويني من السماء إلى الأرض، في رحلةٍ طويلة بين الجبال والبحار والأنهار والمدن والممالك، فيصف البلدان والأقاليم السبعة، ويذكر خصائصها المناخية والنباتية والحيوانية.
يتحدث عن البحر المحيط الذي كان يعتقد أنه يطوّق الأرض، وعن الأنهار العجيبة التي تنبع من الجنة، وعن الجبال التي تنفث نارًا في باطن الأرض.

ثم يدخل إلى عالم الكائنات، فيقسمها إلى:
الإنسان: ويتحدث عن خلقه، وأعضاء جسده، وأسرار النفس، وأحوال الأرواح.
_البهائم والطيور: يصف الإبل والخيول والفيلة والنسور والبوم، ويذكر خصائصها وأمثالها في السلوك والعقل.
_الأسماك والزواحف والحشرات: يتحدث عن الأسماك العملاقة في البحر، والثعابين التي تبتلع الغزلان، والعقارب التي تعرف طريقها إلى موطنها.
_الكائنات الغريبة: يصف مخلوقات سمع بها من الروايات مثل “الناس ذوي رؤوس الكلاب” و“الطيور التي تنام واقفة” و“الجزر التي تتحرك كالكائنات”، فيمزج الحقيقة بالأسطورة بأسلوبٍ عجيبٍ وممتع…
لغة القزويني هي لغة العلم الممزوج بالشعر.
يكتب بعبارات دقيقة، ثم يختم كل فصلٍ بعبارةٍ إيمانيةٍ تدعو للتفكر والخشوع.
يجمع بين الأرقام والروايات، بين الدقة والمجاز، فيجعل من كتابه نصًا حيًّا لا يزال قارئ اليوم يجد فيه لذّة الدهشة الأولى.

ومن أمثلته:
«في البحر مخلوقاتٌ لا تُرى إلا حين يغضب البحر، فإذا ظهرت، هرب منها كل من في السفينة، لأنها تبتلع السفن كما يبتلع الإنسان اللقمة.»

الجانب العلمي في الكتاب:
على الرغم من أن القزويني كتب قبل ظهور المنهج التجريبي الحديث، فإن كتابه يتضمن ملاحظات علمية دقيقة عن:

*دورة المياه في الطبيعة

*تأثير القمر على المدّ والجزر

*تفسير تكوّن السحب والأمطار

*أسباب اختلاف المناخات والأقاليم

*دراسة الحيوانات في سلوكها وغرائزها
وهي موضوعات سبقت في إشاراتها كثيراً من الدراسات الأوروبية اللاحقة.

القزويني لم يكن عالماً جامداً، بل كان أيضًا حكّاءً بارعًا، نقل عن كتب الهند والفرس والإغريق، فضمّن كتابه أساطير البحر، وحكايات الجبال، والمخلوقات الخرافية، مثل:

الطيور التي تتكلم.
الأحجار التي تضيء في الليل.
الأنهار التي تغيّر ألوانها.
الجبال التي تصدر أنغامًا.
المدن التي تختفي تحت الرمال.

لكنّه دائمًا كان يعلّق على هذه الروايات بعبارةٍ ذكية:

«والله أعلم بحقيقة الأمر، فالعقل يقبل منها ما وافق الطبيعة، ويردّ ما خالف الحكمة.»
وهو بهذا أسّس مبكرًا لفكرة التمييز بين الخبر الصادق والأسطورة في منهج المعرفة.

أثر الكتاب في الحضارة
انتشر كتاب القزويني انتشارًا واسعًا في الشرق والغرب:
تُرجم إلى الفارسية والتركية واللاتينية في القرون الوسطى.
استُخدم مرجعًا في مدارس بغداد ودمشق والقاهرة في علم الجغرافيا والطبيعة.
زيّنت نسخه المصوّرة بأجمل المنمنمات الإسلامية، التي ما زالت حتى اليوم من روائع الفن الإسلامي في متاحف إسطنبول وطهران وباريس.
اعتمد عليه الرحالة والمفسرون والعلماء في فهم الظواهر الكونية والبيئية.

رسالة القزويني:
لم يكن هدف القزويني سرد الغرائب لذاتها، بل أراد أن يجعل منها مرآة لتجليات القدرة الإلهية.
فكل مخلوق عنده يحمل رسالة، وكل ظاهرة طبيعية هي آية من آيات الله في الكون.
إنه دعوة للتأمل في كل ما يثير الدهشة، لأن الدهشة — في نظره — أول طريق المعرفة.

«ومن لم يتعجب من صنع الله، لم يعرف قدره.»
يُعدّ كتاب “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” من أندر المؤلفات التي جمعت بين العلم والخيال والإيمان والجمال في عملٍ واحد.
هو سجلٌّ للعالم كما رآه العقل الإسلامي في أوج ازدهاره، حين كانت المعرفة متعةً والدهشة عبادةً.
وبعد مرور أكثر من سبعة قرون، ما زال القزويني يذكّرنا أن الكون كتابٌ مفتوح، وأن من يقرأ عجائبه بعينٍ متفكرة، لا يرى فيه غرائب غامضة، بل دلائل واضحة على عظمة الخالق وبهاء الوجود.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا