
المهدي بن بركة، أحد أبرز الشخصيات السياسية والفكرية في المغرب والعالم خلال القرن العشرين، شكّل رمزًا للنضال من أجل العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني. وُلد في عام 1920 بمدينة الرباط لعائلة متواضعة، ونشأ في فترة كانت فيها المغرب تحت وطأة الاستعمار الفرنسي. أظهر بن بركة نبوغًا مبكرًا، فتلقى تعليمه في المغرب قبل أن ينتقل إلى فرنسا لمتابعة دراسته، حيث تخصص في الرياضيات وحصل على شهادات عليا. عاد إلى وطنه ليصبح أستاذًا ومثقفًا ملتزمًا بقضايا الشعب المغربي، ثم مستشارًا للملك محمد الخامس، وهو ما مكّنه من الاقتراب من صلب الحياة السياسية المغربية.
في عام 1944، كان بن بركة من بين مؤسسي حزب الاستقلال، الذي قاد النضال ضد الاستعمار الفرنسي حتى تحقيق الاستقلال عام 1956. لكن مع نيل المغرب استقلاله، بدأت تظهر خلافات عميقة بينه وبين النظام الملكي حول طبيعة الحكم وتوزيع السلطة والثروات. كان بن بركة يرى أن تحقيق الاستقلال السياسي يجب أن يُتبع بتحولات اقتصادية واجتماعية عميقة تخدم مصالح الشعب المغربي. هذه الرؤية دفعته إلى الانشقاق عن حزب الاستقلال عام 1959 وتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي نادى بإصلاحات جذرية وبناء مجتمع قائم على العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة.
من أبرز القضايا التي شغلت المهدي بن بركة خلال مسيرته، قضية الصحراء المغربية. كان موقفه واضحًا وصارمًا بشأن هذه القضية، حيث اعتبر أن الصحراء جزء لا يتجزأ من الوحدة الترابية للمغرب. كان ينظر إلى الاستعمار الإسباني للصحراء كاستمرار لسياسات الهيمنة الاستعمارية، ودعا إلى مواجهة هذا الاحتلال بكل الوسائل الممكنة. بالنسبة له، لم تكن قضية الصحراء مجرد نزاع إقليمي، بل جزءًا أساسيًا من الكفاح الوطني لاستكمال استقلال المغرب وسيادته.
رأى بن بركة أن تحرير الصحراء يجب أن يترافق مع تحسين أوضاع السكان المحليين وضمان إدماجهم الكامل في المشروع الوطني، بما يحقق التنمية والعدالة. كما شدد على ضرورة حل هذه القضية ضمن سياق إقليمي، مع الحرص على التعاون مع الدول المجاورة بما يخدم مصالح الشعب المغربي ووحدته الترابية.
تم نفي بن بركة سنة 1951 إلى الصحراء من قبل المستعمر الفرنسي قبل ان يفرج عنه بعد ثلات سنوات.
في مارس 1957، كُلّف المهدي بن بركة بالاشتغال مع علال الفاسي في ملف الصحراء المغربية، نظرًا لتوفره على وثائق ومراجع مهمة جدًا.
على الصعيد الدولي، تجاوز بن بركة حدود المغرب ليصبح شخصية عالمية. ارتبط اسمه بحركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولعب دورًا محوريًا في تأسيس حركة عدم الانحياز. كان من أبرز المنظمين لمؤتمر القارات الثلاث، الذي كان يهدف إلى توحيد جهود دول العالم الثالث لمواجهة الاستعمار والإمبريالية.
إلا أن نشاطه السياسي، سواء داخل المغرب أو خارجه، جعله هدفًا للعديد من القوى. تصاعدت التوترات بينه وبين النظام الملكي، كما أن مواقفه الثورية لم ترق لبعض الأنظمة العالمية والقوى الاستعمارية. في 29 أكتوبر 1965، اختفى المهدي بن بركة في باريس في ظروف غامضة. كشفت التحقيقات لاحقًا أنه اختُطف واغتيل بمشاركة أجهزة استخبارات فرنسية ومغربية وأطراف أخرى. شكلت حادثة اختفائه صدمة دولية وأثارت موجة من الغضب والاستنكار.
اليوم، لا يزال المهدي بن بركة حاضرًا في الذاكرة الوطنية والدولية كرمز للنضال من أجل الحرية والعدالة. رغم غيابه، فإن أفكاره ومبادئه تواصل إلهام الأجيال الجديدة من المناضلين والسياسيين. كان وما زال شخصية معقدة تجمع بين الفكر الثوري والرؤية العميقة، وبين الالتزام الوطني والانخراط في القضايا العالمية.
المهدي بن بركة يمثل جزءًا من تاريخ المغرب الحديث، ويظل لغز اختفائه جرحًا مفتوحًا في التاريخ السياسي العالمي. إرثه الفكري والنضالي هو شهادة على التحديات التي تواجه من يسعون لتغيير جذري في مجتمعاتهم، ويمثل درسًا حول تعقيدات السياسة العالمية وتداخل المصالح.