منوعات

تجربة فيلادلفيا.. اللغز الذي ابتلعته الأمواج بين العلم والخيال

ميتافيزيقا

في خضمّ الحرب العالمية الثانية، حين كانت البشرية تتأرجح بين العلم والدمار، ظهرت واحدة من أكثر القصص غموضًا في التاريخ العسكري الحديث.
قصةٌ تقول إن البحرية الأمريكية أجرت في أكتوبر من عام 1943 تجربة سرّية في حوض بناء السفن بمدينة فيلادلفيا، هدفها جعل السفينة الحربية USS Eldridge تختفي عن الأنظار بواسطة مجالٍ كهرومغناطيسي هائل.
لكن ما بدأ كمشروعٍ تقنيٍّ لمكافحة الرادارات الألمانية، تحوّل — كما تزعم الروايات — إلى حادثةٍ خارقة للطبيعة، حيث تداخل العلم مع المجهول، والفيزياء مع الميتافيزيقا.

الاختفاء الأول:
بحسب القصة، تمّ تزويد السفينة بأسلاك نحاسية ضخمة ومولّدات كهربائية هائلة لتوليد مجالٍ كهرومغناطيسي كثيف حولها.
وعند تشغيل النظام صباح الثامن والعشرين من أكتوبر، غمر السفينة ضبابٌ أخضر غريب، ثم اختفت فجأة أمام أعين المراقبين.
يقول الشهود إنها ظهرت بعد دقائق في ميناءٍ آخر على بُعد مئات الكيلومترات، قبل أن تعود إلى موقعها الأصلي في فيلادلفيا — لكنّ طاقمها لم يكن كما كان.
بعض البحّارة أصيبوا بانهياراتٍ نفسية، وآخرون وجدوا أجسادهم مندمجة في هيكل السفينة المعدني، في مشهدٍ وصفه بعضهم بأنه “خروج من الزمان والمكان”.

كارل ألين.. الشاهد الذي أشعل النار:
مرت أعوام، ثم ظهر الرجل الذي أعاد إشعال الأسطورة: كارل ألين (Carl Allen)، بحّارٌ سابق زعم أنه كان شاهدًا عيانًا على التجربة.
عام 1955 أرسل سلسلة رسائل إلى الباحث في الظواهر الغامضة موريس جيسب (Morris Jessup)، وصف فيها ما شاهده من اختفاءٍ تام للسفينة وسط ضبابٍ أخضر “يمزق الوجود”، وربط ذلك بمحاولات أينشتاين لتوحيد قوى الكون في “نظرية الحقل الموحّد”.

كانت رسائل ألين غريبةً، متداخلة بين العلم والتصوف، لكنها وجدت صدى لدى المهتمين بالظواهر الخارقة.
بعدها، تلقّت البحرية الأمريكية نسخةً من كتاب “جيسب” عن الأجسام الطائرة المجهولة وقد أُضيفت عليها تعليقاتٌ بخطّ اليد تُشير إلى “تجربة فيلادلفيا” مباشرة.
ومن هنا، بدأ الجدل يتّسع… هل هي وثائق سرية؟ أم ألاعيب نفسية لشخصٍ متأثر بالهوس العلمي لتلك المرحلة؟

اختفاء الكاتب وميلاد الأسطورة:
في عام 1959، عُثر على موريس جيسب ميتًا في سيارته بفلوريدا.
قيل رسميًا إنه انتحر، لكنّ الغموض الذي أحاط بوفاته غذّى الاعتقاد بأن وراءه “قوةً تريد إسكات الحقيقة”.
أما كارل ألين، فقد اختفى هو الآخر لفتراتٍ طويلة، ليعود برسائل متفرقة يزعم فيها أنه “دفع ثمن معرفة ما لا يجب أن يُعرف”.

اختفاء الرجلين، في ظرفٍ زمنيٍ متقارب، جعل الناس يقتنعون أن ما جرى في فيلادلفيا لم يكن مجرد خرافة، بل سرًّا عسكريًا دفنته الحكومة تحت رمال النسيان.
توالت بعدها الكتب والأفلام التي تناولت التجربة، أبرزها فيلم “The Philadelphia Experiment” سنة 1984، الذي صوّر السفينة وهي تعبر الزمن ذاته لتظهر في المستقبل.
وهكذا تحوّلت التجربة من إشاعة إلى أسطورةٍ عالمية، تجاوزت حدود العلم لتصبح رمزًا لكل ما يخفيه المجهول خلف ستار التقنية الحديثة.

بين الحقيقة والأسطورة:
المؤسسة العسكرية الأمريكية نفت رسميًا كلّ تفاصيل التجربة، مؤكدةً أن السفينة Eldridge كانت في مهمّات روتينية في البحر المتوسط، وأن ما جرى فعلاً في بعض السفن هو عملية “إزالة مغناطيسية” (De-Gaussing) للحماية من الألغام، وهي عملية تولّد بالفعل وهجًا كهربائيًا قويًا قد يبدو غامضًا من بعيد.
أما العلماء، فأجمعوا على أن فكرة “إخفاء جسمٍ ماديٍّ ضخم عبر ثني الضوء والمجال الزمكاني” تتطلب طاقةً تفوق طاقة الشمس بملايين المرات، مما يجعل القصة مستحيلة فيزيائيًا.
لكنّ هذه التفسيرات لم تُنهِ الجدل، بل زادت من سحر الأسطورة.
فالصمت الرسمي، والوفيات الغامضة، وتضارب الشهادات، جعلت القصة تنجو من النسيان لتُصبح جزءًا من الوعي الجمعي الأمريكي — رمزًا لزمنٍ كانت فيه الحرب تدفع الإنسان لتحدّي الطبيعة نفسها.

لقد بقيت تجربة فيلادلفيا معلّقة بين التاريخ والخيال، بين وثيقةٍ عسكرية مفقودة وصرخةٍ في العدم.
ومهما حاول العلماء نفيها، فإنها تظلّ واحدة من أكثر القصص التي تُعبّر عن هوس الإنسان بالقدرة، وخوفه من أن يكتشف أكثر مما يحتمل.

فهل كانت تجربة فيلادلفيا مشروعًا سرّيًا تجاوز حدود العلم… أم مجرّد أسطورةٍ من وحي الخيال وذاكرة الحرب؟

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا