تعليم

علم الحروف عند الهندوس والبوذيين.. سرّ الأصوات التي تهزّ الكون

علم الحرف _ الجزء الرابع

في عمق الفلسفات الشرقية، يبرز ما يُعرف بـ«علم الحروف» لا باعتباره مجرد دراسة لغوية أو صوتية، بل كعلم باطنيّ يربط بين الحرف والطاقة والكون. فالهندوس والبوذيون لا يرون الحرف صوتاً عابراً، بل نبضة من نَبَضات الوجود، وجزءاً من سرّ الخلق ذاته. هذا التصوّر جعل الحرف عندهم أكثر من وسيلة للتعبير، بل وسيلة للتأمل والاتحاد بالروح الكونية.

يقول النص الفيدي في إحدى الترجمات: «في البدء كان الصوت، ومنه تشكّل الوجود، وكل الحروف امتداد لصدى الخلق الأول».
بهذه الفكرة ينطلق الهندوس في اعتقادهم بأن كل حرف «أكشارا» (Akṣara) هو طاقة لا تفنى، وأن الكون كله قائم على اهتزازات صوتية أولى، أبرزها صوت «أوم» (ॐ) الذي يمثل أصل الأصوات جميعها. يُنطق «أوم» بمقاطع ثلاثة (A-U-M)، يرمز كل منها إلى أحد أوجه الوجود: الخلق، والحياة، والفناء. وقد جاء في تفسيرهم أن ترديد هذا الصوت يربط الإنسان بالمطلق، لأنه «صوت الوجود الذي لا بداية له ولا نهاية».

أما في البوذية، فقد انتقلت الفكرة ذاتها إلى سياق أكثر تأملياً، حيث يُستخدم الحرف أو المقطع الصوتي كأداة للوصول إلى الفراغ الداخلي والنقاء الذهني. فـ«المانترا» (Mantra) في البوذية ليست مجرد ترنيمة، بل وسيلة للتحرّر من الوهم. ومن أشهر هذه المانترا مقطع «A» الذي يُعدّ رمزاً للفراغ (Śūnyatā) أو «العدم النشوء»، أي أن الكائن لا يولد حقاً ولا يفنى، بل يتحوّل في جوهر الوجود ذاته.

ويشير الباحثون إلى أن علم الأصوات المقدسة عند الهندوس يرتكز على فرع من الفيدانغا يُسمى «شيكشا» (Śikṣā)، وهو علم يدرس مخارج الحروف، وأماكن النطق، وإيقاعات التلاوة، من أجل حفظ النصوص الفيدية على نحوٍ دقيق وصحيح. وقد كتب أحد المفسرين القدامى: «إن خطأً واحداً في النطق قد يُغيّر وجه الكون، لأن الكلمة طاقة، والطاقة إذا انحرفت عن مسارها أحدثت خللاً في النظام».
هذا الاعتقاد يجعل من اللغة السنسكريتية عندهم لغة طاقة كونية، لا مجرد أداة تواصل.

وفي التقاليد التانترية الهندوسية، يتحد البعد الصوتي بالحضور الروحي في ما يُعرف بـ«بيجا مانترا» (Bīja-Mantra)، أي «بذور الترنيم». كل حرف أو مقطع منها يُعدّ بذرة لجوهر إلهي محدّد، فالمقطع «كْرِيم» مثلاً يُستخدم لاستحضار طاقة الإلهة «كالي»، بينما «هْرِيم» يرتبط بالنور الداخلي للوعي الإلهي.
جاء في أحد النصوص التانترية القديمة: «كما تنبت الشجرة من بذرتها، تنبثق القوى الإلهية من المقطع المقدّس».

وفي البوذية، وبخاصة في مدارس «الماهايانا» و«التيبتية»، تُتلى هذه المقاطع في تأملات طويلة يتوحّد فيها الصوت بالوعي، مثل المانترا الشهيرة «أوم ماني بادمي هوم» (Om Mani Padme Hum) التي تعبّر عن الرحمة الكونية وتجسّد طريق الخلاص.

علم الحروف هنا ليس علماً غيبياً فحسب، بل ممارسة روحية دقيقة. فالحروف عندهم ترتبط بمراكز الطاقة في الجسد (الشاكرات)، وكل صوت يُنطَق بطريقة معينة يُنشّط مركزاً روحياً خاصاً. وقد أشارت دراسات حديثة إلى أن التلاوة المنتظمة للمانترا تُحدث تأثيرات فيزيولوجية ملموسة كخفض التوتر وتنظيم التنفس وتحسين التركيز. وبهذا يلتقي العلم القديم بالعلم الحديث، حيث تتجلّى حقيقة قولهم القديم: «الصوت دواء الروح».

إن الفارق بين النظرتين الهندوسية والبوذية دقيق لكنه جوهري؛ فالهندوسية تركّز على قدسية الحرف كقوة خالقة تحفظ النظام الكوني، أما البوذية فتنظر إليه كطريق للتجاوز والتحرّر من كل شكل أو معنى. ومع ذلك، يتّحد الجانبان في الإيمان بأن الكلمة ليست مجازاً، بل حقيقة تهزّ الوجود.

وفي زمنٍ باتت فيه الكلمة رخيصة والاستهلاك اللغوي طاغياً، يعيدنا علم الحروف الهندي والبوذي إلى أصل الأشياء: إلى الصمت الذي يسبق النطق، وإلى الوعي بأن كل حرفٍ يُقال يترك صدى في الكون. فهل أدركنا بعد أن الحروف التي نكتبها وننطقها ليست إلا مفاتيح لعالمٍ أوسع من اللغة؟

[اقتباسات ومراجع] :

_نصوص الـ«أوبانيشاد»: «من الصوت تولّد العالم، ومن الصمت يعود إليه».

_«Śikṣā Vedāṅga» – الدراسات الفيدية في النطق والمخارج.

_«Bīja Mantra in Tantra Tradition» – دراسة منشورة في D.V.K. Journals.

_Britannica Encyclopedia: مدخل عن Mantra and Bīja Mantra.

_History of Hinduism, History.com.

دراسة علمية حديثة عن أثر التراتيل على الجهاز العصبي، PMC Article 2024.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا