ثقافة وفن

كتاب البوابات.. رحلة الشمس في ظلمات العالم الآخر نحو فجر الخلود

قراءة في كتاب

في قلب وادي الملوك بمدينة طيبة القديمة، وعلى جدران مقابر الملوك الموشّاة بألوان الذهب واللازورد، خطّ المصري القديم واحدًا من أعمق نصوصه الدينية وأكثرها روعة: كتاب البوابات.
ليس كتابًا بالمعنى الورقي، بل خريطة سماوية مقدسة نُقشت على جدران المقابر الملكية، لتدلّ الأرواح على طريق الخلاص في العالم الآخر، وترافق الإله رع في رحلته الليلية من الغروب إلى الشروق، من الموت إلى البعث، ومن الظلام إلى النور.
مولد النص ومعناه:
ظهر كتاب البوابات في أواخر الدولة الحديثة، حوالي القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وخلّدته مقابر ملوك مثل حورمحب، سيتي الأول، رمسيس السادس وغيرهم من فراعنة الأسرات الثامنة عشرة إلى العشرين.
جاء النص امتدادًا لنصوص أقدم مثل كتاب الأمدوات، لكنه أكثر وضوحًا في تصوير فكرة الحساب والعدالة الكونية.
وقد أطلق عليه علماء المصريات اسم Book of Gates أي “كتاب البوابات”، لأنه يقسم الليل إلى اثنتي عشرة ساعة، تمر فيها الشمس — رمز الروح — عبر اثنتي عشرة بوابة في أعماق العالم السفلي، قبل أن تشرق من جديد مع الفجر.
رحلة رع والملك عبر الليل:
تبدأ القصة عند الغروب، حين يدخل الإله رع عالم الدوات (العالم السفلي) في قاربه الشمسي، ترافقه أرواح المؤمنين والملك المتوفى.
في كل ساعة، تواجه القافلة بوابة محروسة بثعبان أو كائن إلهي، لا يُفتح إلا إذا عُرفت أسماؤه السرّية وتُليت التعويذة الصحيحة.
الرحلة مليئة بالمخاطر: أنهار نارية، كائنات سماوية، أرواح تائهة، وحراس لا يرحمون.
لكن من يمتلك الحكمة والمعرفة يعبر بأمان، حتى يصل إلى الساعة الأخيرة، حيث تُفتح بوابة الفجر ويولد النور من جديد.

المحكمة الإلهية وميزان العدالة:
في منتصف الكتاب، يظهر واحد من أعظم المشاهد الدينية في التاريخ: محكمة أوزوريس، حيث يُوزن قلب الميت في كفّة، وريشة العدالة الإلهية (ماعت) في الكفّة الأخرى.
إذا كان القلب نقيًّا خفيفًا كالريشة، نال صاحبه الخلود في حقول الجنة الأبدية،
أما إن كان مثقلاً بالآثام، فقد تلتهمه الوحش “عميمت” — مخلوقٌ يجمع بين رأس التمساح وجسد الأسد ومؤخرة فرس النهر — فيفنى إلى الأبد.

هذه الفكرة لم تكن مجرد أسطورة، بل تعبير عن إيمان المصري القديم بالمسؤولية الأخلاقية، وأنّ الخلاص لا يكون بالمال أو النسب، بل بصفاء القلب وصدق العمل.

رمزية البوابات ومعانيها:
كل بوابة في الكتاب تمثّل مرحلة من مراحل الوعي والامتحان الروحي.
فعبور البوابة الأولى يعني تجاوز الخوف، والثانية تطهير النفس، والثالثة معرفة الحقيقة، وهكذا حتى البوابة الثانية عشرة التي تمثّل النهار الجديد.
الكتاب في جوهره رحلة وعي، وليست مجرد عبور مادي، فالروح تسير في طريق المعرفة حتى تندمج بالنور الكوني، مثل الشمس التي تموت كل مساء وتُبعث كل صباح.

الفن واللغة في النص:
تميّز كتاب البوابات بأسلوب فني مبهر جمع بين اللغة الهيروغليفية والشعر الرمزي، إذ كانت المقابر تُزيَّن بمشاهد متتابعة تُقرأ من الغرب إلى الشرق، تحاكي رحلة الشمس من الغروب إلى الشروق.
الألوان الذهبية تمثل النور، الزرقاء ترمز للماء والسماء، أما الأحمر فيجسّد النار والطاقة.
في مقبرة سيتي الأول نرى القارب الشمسي يشقّ الظلمة، تحيط به ثعابين النار، وتُكتب إلى جانبه التعويذة التي تفتح البوابة:

“افتحي لي يا بوابة السماء، إنّي أعرف اسمك واسم حارسك، دعيني أمرّ كما مرّ رع من قبلي.”
بين المعتقد والفلسفة:
كتاب البوابات ليس مجرد نصّ ديني، بل وثيقة فلسفية متقدمة.
إنه يربط بين النظام الكوني والعدالة الإنسانية، ويجعل من عبور الشمس نموذجًا لرحلة الإنسان نفسه.
فكل إنسان يمرّ في حياته ببوابات من التجارب، وعليه أن يتجاوزها بالمعرفة والحقّ حتى يبلغ النور.
بهذا المعنى، تحوّل النص إلى رمزٍ كونيٍّ للبعث والتجدد، سبق فيه المصريون كلّ الحضارات اللاحقة التي تبنّت فكرة الحساب بعد الموت.
أبرز المقابر والنقوش

من أبرز النسخ الكاملة للكتاب ما وُجد في:

مقبرة سيتي الأول (KV17): أروع ما نُقش من فصول الكتاب، بخطٍّ دقيق وألوان زاهية.
مقبرة حورمحب (KV57): أقدم نسخة معروفة.
مقبرة رمسيس السادس (KV9): نسخة مزجت بين كتاب البوابات وكتاب الأرض، لتشكّل لوحة سماوية فريدة.
تُظهر هذه المقابر أن المصريين لم يتركوا شيئًا للصدفة، فكل جدار وكل لون وكل رمز له معنى محدّد في العقيدة الجنائزية.
الرسالة الخالدة:
في نهاية كتاب البوابات، وبعد اجتياز البوابة الثانية عشرة، تُشرق الشمس من جديد، معلنة انتصار النور على الظلام.
وفي تلك اللحظة، يعلن النص:
«ها قد خرج رع من العالم السفلي، وولد من رحم السماء، ومعه الأرواح التي عرفت الطريق.»
هكذا يرى المصري القديم أن الخلود ليس وعدًا مؤجلًا، بل حقيقة كونية متكررة: فالشمس تموت وتبعث، والإنسان كذلك، ما دام قلبه يعرف النور.
إن كتاب البوابات ليس مجرد تراث ديني فرعوني، بل شهادة خالدة على إيمان المصري القديم بالعدل والنور والمعرفة.
هو رحلة الروح عبر ظلمات العالم الآخر، ودرس أخلاقي خالد يقول لنا حتى اليوم:
«من عرف الأسماء، وعاش بالحقّ، لا يخشى الظلمة أبدًا.»

في كل بوابةٍ من بوابات الليل، تتجلّى رسالة الخلود:
أن الروح النقيّة، مهما مرّت بالعتمة، ستجد طريقها نحو الفجر الأبدي.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا