ثقافة وفن

كتاب الموتى.. سرّ الخلود عند الفراعنة ومرآة العدالة الأبدية

قراءة في كتاب

لم يكن الموت عند المصريين القدماء نهايةً للحياة، بل بدايةُ رحلةٍ جديدة نحو النور والخلود. ومن هنا وُلد أعظم نصٍّ جنائزي عرفته البشرية: كتاب الموتى، الذي ظلّ لقرونٍ طويلة يُدوَّن على البرديات ويُدفن مع الملوك والنبلاء والكهنة، ليكون دليل الروح في عبورها إلى الأبدية.

هذا الكتاب الذي حمل في الأصل اسم «برِت إم هِرو»، أي الخروج إلى النهار، لم يكن مجرّد أوراقٍ مليئة بالتعاويذ، بل فلسفةٌ روحية متكاملة تُجسّد رؤية المصري القديم للعدل والبعث والكون.

من نصوص الأهرام إلى كتاب الخلود:
تعود جذور كتاب الموتى إلى أقدم النصوص الدينية المصرية:
نصوص الأهرام في الدولة القديمة، التي خُصّ بها الملوك فقط، ثم نصوص التوابيت في الدولة الوسطى، التي امتدّت للنبلاء، حتى بلغ الكتاب في الدولة الحديثة (حوالي 1550 ق.م) شكله الأشمل، متاحاً لكل من يستطيع تكاليف نسخه على لفائف بردي طويلة، تُلفّ حول الجثمان لترافق صاحبه إلى العالم الآخر.

كان الغرض منه واحداً: أن يعرف المتوفّى الكلمات السحرية والتعاويذ التي تفتح له أبواب السماء وتمنحه الأبدية في أرض الحق والنهار.

دليل الروح في رحلة الأبد:
يضم الكتاب نحو 190 فصلاً تُعرف بـ«التعاويذ»، تختلف في ترتيبها من نسخة لأخرى، وأشهرها بردية آني المحفوظة في المتحف البريطاني.
يبدأ النصّ بتعاويذ الإيقاظ والبعث: “قُم، وافتح عينيك، وتنفّس هواء الأبدية”، ثم ينتقل إلى فصول التحوّل، حيث تتبدّل الروح إلى طائرٍ أو زهرة لوتس أو كائنٍ نورانيٍّ، رمزاً لتحررها من الجسد.

وفي قلب النصّ تتجلّى محكمة أوزوريس:
الروح تقف أمام الإله العظيم، يُوزن قلبها في كفّة الميزان مقابل ريشة ماعت – رمز الحق والعدالة.
فإن خرج القلب نقياً، نال صاحبه الخلود في “حقول الإيارو”؛ أما إن كان مثقلاً بالذنوب، ابتلعته الوحش المفترسة عميمت، لتفنى روحه في العدم الأبدي.

آلهة الخلود والميزان الأبدي:
يحضر في الكتاب طيفٌ واسع من رموز الآلهة المصرية:
رع – إله الشمس والنور، الذي تسافر روحه كل ليلة عبر العالم السفلي لتشرق من جديد؛
أوزوريس – سيد البعث والحياة الأبدية؛
أنوبيس – حارس المقابر ودليل الأرواح؛
تحوت – كاتب الآلهة الذي يوثّق الحكم الإلهي؛
وماعت – إلهة العدالة والتوازن الكوني، التي يقوم عليها نظام العالم.

كل إلهٍ في النصّ ليس معبوداً منفصلاً، بل تجلٍّ لجوهرٍ كوني واحدٍ، يؤمن المصري القديم بأنه خالق النور والحياة.

رحلة في عالم الأبدية:
تصف الفصول الأخيرة من الكتاب رحلة الروح عبر بحيرات النار وممرات الظلام والبوابات الاثنتي عشرة التي تحرسها كائنات سماوية، حتى تبلغ النور.
هناك، تتّحد الروح برع، وتولد من جديد مع شروق الشمس.
في هذه اللحظة، لا يعود الموت موتاً، بل ولادة ثانية تُعيد الإنسان إلى دائرة الخلق الكبرى.

الفلسفة الكامنة وراء النص:
يُعدّ كتاب الموتى وثيقة فلسفية قبل أن يكون نصًّا دينيًا، فهو يُؤسس لفكرة الضمير الأخلاقي و«الميزان الروحي» الذي يُحاسب الإنسان على أفعاله.
وللمرة الأولى في التاريخ، يظهر مبدأ أن النجاة ليست للملوك ولا للأغنياء، بل لمن كان قلبه طاهراً.

إنه إعلان مبكّر لفكرة العدالة الإلهية التي ستتردد في الأديان اللاحقة، من سفر الرؤيا إلى القرآن الكريم، حيث توزن الأعمال وتُقاس القلوب بالحق.

من البردي إلى المكتبات الحديثة:
أول من اكتشف برديات كتاب الموتى كان عالم المصريات الألماني كارل ليبسيوس عام 1842 في طيبة، ثم قام البريطاني إدوارد ووليس بدج بترجمة كاملة عام 1895 بعنوان The Book of the Dead.
أما الترجمات العربية فظهرت لاحقاً على يد الدكتور محسن لطفي السيد والدكتور فيليب عطية تحت عنوان «الخروج إلى النهار»، فكانت أول محاولة عربية علمية لفك رموز النصّ القديم وشرح دلالاته الرمزية.

الخلود في الوعي الإنساني:
لم يفقد الكتاب سحره حتى اليوم. فهو مرآةٌ لعقيدةٍ آمنت بأن الإنسان ليس جسداً فانياً، بل روح خالدة تُحاسب وتُبعث وتستحق النور.
وقد ألهم كتاب الموتى الشعراء والفلاسفة والروائيين، من دانتي في “الكوميديا الإلهية” إلى نجيب محفوظ في “رحلة ابن فطومة”، وكل من سعى إلى رسم درب الإنسان بين الحياة والموت والبعث.

كتاب الموتى.. إرث الخلود:
لقد ترك المصري القديم للعالم إرثًا يتجاوز المعابد والمومياوات:
ترك كتابًا للحياة الأبدية، نُقش بحبرٍ من الإيمان والرمز، قال فيه للعالم منذ آلاف السنين:

“القلب لا يُوزن بالذهب، بل بالحقّ،
ومن عاش في النور، لا يعرف الظلام أبداً.”

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا