
تشهد العلاقات الجزائرية الإماراتية توتراً غير مسبوق، بعد مقابلة تلفزيونية بثّتها قناة “سكاي نيوز عربية”، أعادت إلى السطح توترات سياسية وإيديولوجية متراكمة بين البلدين. المقابلة التي أجريت مع المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث، حملت تصريحات مثيرة للجدل اعتبر فيها أن الأمازيغية “مشروع فرنسي-صهيوني”، ووصف الأمازيغ بأنهم “عرب قدامى”، مما أثار غضباً واسعاً في الأوساط الجزائرية، حيث تُعد الأمازيغية أحد أعمدة الهوية الوطنية المُعترف بها دستورياً.
ومع أن القضية كانت تتعلق بتصريحات المؤرخ الجزائري، فقد اختارت الجزائر أن تلقي باللائمة على الإمارات وتوظف المقابلة كذريعة للهجوم على أبوظبي، رغم أن الأمر كان “جزائرياً صرفاً”. تكمن الحكاية في كون القناة التي بثّت المقابلة هي “سكاي نيوز عربية”، الامريكية واللتي تقع استودياتوها على الاراضي الاماراتية ، وحتى المذيعة اصلها جزائري، لكن الجزائر رأتها فرصة سانحة للانتقاد والتصعيد ضد الإمارات. ومتهمة اياها بضرب الهوية الوطنية الجزائرية رغم أن مقدمة البرنامج حاولت مرارا تنبيه المؤرخ الجزائري الا انه تمسك برؤيته في الموضوع. لكن ما حدث تجاوز مجرد رد فعل على التصريحات، ليأخذ منحى أكثر تطرفاً في الخطاب الإعلامي والسياسي.
الجزائر لم تقتصر على الرد على التصريحات فقط، بل استخدمت المناسبة لتحميل الإمارات المسؤولية عن “الفتنة”، متهمة إياها بمحاولة التدخل في الشؤون الداخلية الجزائرية عبر “سكاي نيوز” التي تصب الزيت على النار، وهو ما وصفه الإعلام الجزائري بـ”محاولة لتشويه الهوية الوطنية”. وقد استخدم الإعلام الرسمي في الجزائر عبارات غير مسبوقة في خطابها، حيث وصفت حكام الإمارات بـ”الأقزام” و”الدولة المصطنعة” و”الشر”، في حملات إعلامية حادة تستهدف ليس فقط السياسة الإماراتية، بل شخصية القيادة في أبوظبي.
وفي خضم هذا السجال، أقدمت السلطات الجزائرية على إيداع المؤرخ محمد الأمين بلغيث الحبس المؤقت، وهو ما اعتُبر دليلاً على حساسية الدولة الجزائرية تجاه أي مساس بعناصر هويتها الوطنية. هذا التوتر لم يأتِ من فراغ، بل جاء تتويجاً لتراكمات عديدة بين البلدين، أبرزها الخلاف حول اتفاقيات “أبراهام” التي وقعت عليها الإمارات مع إسرائيل سنة 2020، وهي الخطوة التي رفضتها الجزائر بشدة واعتبرتها خيانة للقضية الفلسطينية.
كما تعمّق الخلاف بين الجزائر وأبوظبي بسبب دعم الإمارات الصريح للمغرب في ملف الصحراء الغربية، وفتحها قنصلية في مدينة العيون، وهو ما أغضب الجزائر التي تعتبر القضية مسألة تصفية استعمار وتدعم جبهة البوليساريو. ولم تكن ليبيا بعيدة عن هذا التباين، فقد وقفت الإمارات إلى جانب خليفة حفتر، بينما دعمت الجزائر حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، في سياق صراع استراتيجي متعدد الأوجه. كذلك، تبدي الجزائر رفضاً متزايداً للدور الإماراتي في منطقة الساحل، حيث ترى أن دعم الإمارات لبعض الأنظمة العسكرية هناك يهدد أمنها القومي وعمقها الإفريقي.
ما يحدث بين الجزائر والإمارات يُظهر جانباً مهماً من واقع التفرقة بين العرب، الذي يستند في كثير من الأحيان إلى غياب الحوار الفعّال والمثمر. فالأنظمة السياسية في بعض الأحيان تدفع بشعوبها نحو مزيد من الكراهية ضد “الأخ” العربي المسلم، نتيجة للتجييش الإعلامي والتهويل المتعمد الذي يخلق انقسامات عميقة. هذه التصعيدات ليست انعكاساً فقط للاختلافات الإقليمية، بل تمثل أيضاً فشلاً في بناء جسور من التواصل الفعّال، مما يُفضي إلى تزايد التوترات والصراعات بدلاً من تسوية الخلافات في إطار من الوحدة العربية.
في سياق هذه الأزمات المتلاحقة، يبرز صراع النفوذ بين الجزائر والإمارات، حيث تسعى كل دولة إلى تعزيز حضورها الإقليمي والعالمي وفق منطلقات مختلفة. فبينما تخلق الإمارات تحالفات سياسية واقتصادية لتعزيز نفوذها، تنخرط الجزائر في كثرة الصراعات مع المغرب وليبيا ومالي والإمارات تعصّباً لسياساتها، دون النظر إلى وجهات نظر الأطراف الأخرى أو البحث عن حلول توافقية. وتُظهر الدبلوماسية الجزائرية في كثير من المحطات ضعفاً في القدرة على بناء حوار متوازن، إذ تميل إلى القطعية والحدة بدل التدرج والتفاوض، ما يجعلها تخسر فرصاً للتموضع الاستراتيجي في بيئة إقليمية متغيرة. ولعل هذه الأزمة الأخيرة تعكس حاجة ملحّة لإعادة تقييم الأساليب الدبلوماسية العربية التي كثيراً ما تكون ضحية الانفعال، بدل أن تكون أداة للعقلنة والتقارب.