
في مشهد سياسي غير مألوف، تصاعدت في الأسابيع الأخيرة حدة الخلاف بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورجل الأعمال الشهير إيلون ماسك، بعد سنوات من تحالف غير رسمي جمع بينهما على قاعدة المصالح الاقتصادية والتقارب في بعض التوجهات السياسية. فما الذي حدث؟ ولماذا انفجر هذا الصراع الآن؟ وما تداعياته على مستقبل السياسة الأمريكية، خصوصًا في أوساط التيار اليميني؟
دونالد ترامب هو رجل أعمال ملياردير ونجم تلفزيون واقع سابق، أصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة (2017–2021). قاد تيارًا شعبويًا قوميًا داخل الحزب الجمهوري تحت شعار “أمريكا أولاً”، وأعاد تشكيل المشهد السياسي الأمريكي بحدة خطابه ومواقفه المحافظة. أما إيلون ماسك، فهو مهندس ومخترع وملياردير شهير، أسس شركات عملاقة مثل تسلا وسبيس إكس ونيورالينك، ويملك منصة X (تويتر سابقًا). يُعرف بمواقفه المتحررة من الأطر الحزبية التقليدية، وغالبًا ما يميل إلى أفكار ليبرتارية تجمع بين دعم حرية التعبير وتقليل تدخل الدولة.
رغم التناقضات في الأسلوب والشخصية، وجد ترامب وماسك أرضية مشتركة خلال ولاية ترامب الأولى. فقد استفادت شركات ماسك من عقود ضخمة مع وكالة الفضاء “ناسا” والبنتاغون، بينما شارك ماسك في بعض اللجان الاستشارية الرئاسية قبل أن يستقيل في 2017 احتجاجًا على انسحاب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ. وبينما لم يعلن ماسك دعمه الصريح لأي مرشح في انتخابات 2024، كانت تصريحاته المنتقدة لإدارة بايدن وتأييده لحرية التعبير على منصة X، قد فُسرت كإشارة ضمنية لدعمه ترامب، ولو بشكل غير مباشر.
بدأت الشرارة في مايو 2025، عندما هاجم ماسك علنًا مشروع قانون اقتصادي ضخم يطرحه ترامب تحت اسم “One Big Beautiful Bill”، واصفًا إياه بأنه كارثة مالية قد تُغرق البلاد بعجز يناهز 2.4 تريليون دولار. الرد من ترامب لم يتأخر، فوصف ماسك بـ”الفاقد لصوابه”، وهدد صراحة بإلغاء العقود الحكومية مع تسلا وسبيس إكس. وهذا ما حدث فعلاً بشكل جزئي، مما أدى إلى تراجع أسهم تسلا بنسبة 14%، وخسائر قدرت بـ34 مليار دولار في ثروة ماسك. ماسك، من جهته، صعّد الموقف أكثر بإعلانه نيّته تأسيس حزب جديد باسم “The America Party” يمثل “الأغلبية الصامتة”، ملمّحًا إلى أن ترامب لم يعد يعكس طموحات الجيل الجديد. وفي تطور صادم، ألمح ماسك في منشورات على منصة X إلى احتمال تورط ترامب في ملف جيفري إبستين، دون تقديم دليل مباشر، ما اعتُبر تجاوزًا للخطوط الحمراء.
اللافت أن هذه ليست المرة الأولى التي يقع فيها خلاف بين الرجلين، لكنها بالتأكيد الأكثر حدّة. ففي عام 2017، استقال ماسك من اللجان الاستشارية لترامب بسبب خلاف بيئي، إلا أن العلاقة لم تنقطع كليًا، وظلت شركات ماسك تستفيد من بيئة تنظيمية مريحة في عهد ترامب. كانت هناك هدنة ذكية قائمة على تبادل المصالح، دون أن ترتقي العلاقة إلى مستوى التحالف العقائدي الحقيقي.
ما نراه اليوم ليس مجرد صراع بين شخصيتين نافذتين، بل هو صراع على مستقبل اليمين الأمريكي نفسه. ترامب لا يزال يحظى بقاعدة صلبة من المحافظين، بينما يحاول ماسك أن يعيد رسم خريطة اليمين عبر جيل من المستقلين ورواد الأعمال والتكنولوجيين. وفي حال تأسس حزب ماسك بالفعل، فإن ذلك سيؤدي إلى شرخ واضح داخل الصف اليميني، وقد يُعيد تشكيل الحياة السياسية في الولايات المتحدة من جديد.
من غير المستبعد أن تعود المياه إلى مجاريها بين الرجلين إذا شعر أحدهما بأن المصالح المشتركة أقوى من النزاع القائم، لكن الأرجح أن هذا الصراع قد يتحول إلى معركة “وجودية” على قيادة التيار اليميني. الطرفان لا يتشاركان فقط الطموح، بل الإيمان بأن كل منهما قادر على أن يكون وجه أمريكا القادم. وبينما يراهن ترامب على قاعدة محافظة كلاسيكية، يراهن ماسك على مستقبل تكنولوجي متحرر من الأيديولوجيات التقليدية.
في النهاية، لا يبدو أن أحدهما سينسحب بسهولة. ترامب لا ينسى الإهانات، وماسك لا يتراجع إذا تعرّض للتحدي. ولذلك، فإن هذا الصراع بين اثنين من أكثر الرجال نفوذًا في أمريكا قد لا يغير فقط المعادلة السياسية في 2028، بل قد يعيد رسم الخط الفاصل بين السلطة والمال في الديمقراطية الأمريكية كلها.