
في تطور دراماتيكي جديد يعكس مرحلة أكثر دموية في الصراع المستمر منذ فبراير 2022، شنت القوات الروسية واحدة من أعنف هجماتها على الأراضي الأوكرانية منذ بداية الحرب، مستهدفة بشكل مكثف مدينة خاركيف والعاصمة كييف وعدة مناطق أخرى. الهجوم، الذي وصفته أوكرانيا بأنه “غير مسبوق”، أسفر عن سقوط قتلى وجرحى، فيما أكد المراقبون أنه يأتي في إطار تحوّل استراتيجي من جانب موسكو نحو تكثيف الضغط العسكري لفرض وقائع جديدة على الأرض.
فجر السبت، ضربت روسيا خاركيف بموجة مركّبة من الصواريخ والقنابل الموجهة والطائرات المسيرة، مما أدى إلى مقتل 3 مدنيين على الأقل وتدمير منشآت مدنية وعسكرية حيوية، في مشهد يذكّر بأكثر مراحل الحرب قسوة. العاصمة كييف لم تكن بمنأى عن التصعيد، إذ لقي أربعة أشخاص مصرعهم وأصيب العشرات إثر هجمات صاروخية متزامنة طالت منشآت سكنية وتجارية، بينما تعرّضت مدن تشيرنيهيف ولوتسك بدورها لضربات أسفرت عن سقوط ضحايا آخرين. وكأن موسكو تسعى من خلال هذه الضربات إلى إيصال رسالة مفادها أن المعركة دخلت طورًا لا مجال فيه للمهادنة.
تصريحات الكرملين الأخيرة جاءت لتؤكد هذا التوجّه؛ إذ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن النزاع مع أوكرانيا لم يعد مجرد خلاف حدودي أو صراع نفوذ، بل أصبح “قضية وجودية” بالنسبة لروسيا، في تعبير يحمّل أبعادًا استراتيجية عميقة ويشير إلى رفض أي حلول وسط تضعف من نفوذ موسكو في محيطها الحيوي. وفي اتصال مع دونالد ترامب، أكد بوتين أن روسيا “ستقرر بنفسها كيف ومتى سترد” على ما وصفه بـ”الاعتداءات الأوكرانية” على العمق الروسي.
وفي المقابل، لم تظل أوكرانيا مكتوفة الأيدي؛ فقد نفذت مطلع يونيو الجاري عملية نوعية أطلقت عليها اسم “شبكة العنكبوت”، استهدفت من خلالها خمس قواعد جوية روسية في العمق، وأسفرت وفق تقارير عن تدمير أو إعطاب نحو 20 طائرة حربية روسية، بما في ذلك قاذفات استراتيجية. العملية، التي عدّتها كييف ردًا على تصعيد موسكو، أعادت تأكيد قدرتها على توسيع نطاق الحرب داخل الأراضي الروسية رغم الفارق الكبير في الإمكانات العسكرية بين الطرفين.
ومع تصاعد المعارك، تتكشّف النوايا الروسية بشكل أكثر وضوحًا. مسؤول أوكراني بارز كشف أن روسيا تسعى للسيطرة على ما لا يقل عن نصف الأراضي الأوكرانية بحلول نهاية عام 2026، في خطة عسكرية طويلة المدى تضع الشرق والجنوب الأوكرانيين في صلب أهدافها الاستراتيجية. وتزامنًا مع ذلك، تشير التقارير إلى اقتراب عدد الضحايا الروس في أوكرانيا من حاجز المليون بين قتيل وجريح، في مؤشر على حجم الكلفة البشرية الباهظة للحرب.
ورغم تصاعد العنف، تظل التحركات الدبلوماسية مستمرة ولكن محدودة التأثير. قمة لندن التي عقدت في مارس الماضي بمشاركة 16 دولة وعدة تكتلات دولية، بما فيها الناتو والاتحاد الأوروبي، لم تنجح في بلورة خطة سلام قابلة للتنفيذ، ما يشي بأن المعركة ستستمر لفترة أطول، مع تزايد المخاوف من اتساع رقعتها الجغرافية وتورط أطراف دولية أخرى فيها بشكل مباشر.
تبدو الأيام القادمة مرشحة لمزيد من التصعيد، في ظل خطاب روسي متشدد وتحركات عسكرية نوعية، يقابلها إصرار أوكراني على الصمود وتوسيع نطاق المواجهة، وسط تعقيدات دولية تجعل من هذا النزاع أكثر من مجرد حرب تقليدية؛ إنه صراع وجودي كما وصفه بوتين، لكنه أيضًا اختبار لمستقبل التوازنات العالمية.