
منذ أن نزل قول الله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، ارتبط الحرف بالوحي، وصار اللفظ العربي وعاءً للمعنى الإلهي، ولسانًا للرسالة الخاتمة. فالحروف في القرآن ليست مجرد رموز صوتية، بل آياتٌ في ذاتها تدعو إلى التفكر والتدبر في إعجاز الخالق الذي قال: {ن والقلم وما يسطرون}، فدلّ بذلك على شرف الكلمة والكتابة. غير أن بعض الناس تجاوزوا هذا المعنى المشروع إلى اعتقادٍ بأن للحروف أسرارًا غيبية وطاقةً خفية يمكن بها التأثير في المقادير أو كشف المجهولات، فظهر ما يُعرف بـ”علم الحروف”، وهو ما أثار جدلاً واسعًا بين العلماء على مر العصور.
لقد رأى بعض المتصوفة أن للحروف إشارات روحية، وأنها أبواب لمعرفة أسرار الكون والروح، فذهبوا إلى تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور – كـ”الم” و”كهيعص” – بأنها رموز بين الله وأنبيائه، لا يفهمها إلا من أُوتي علمًا خاصًا. بينما ردّ جمهور العلماء هذا الزعم، وعدّوه ضربًا من التأويل الباطني الذي لا دليل عليه، مستدلين بقول الله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}، فبيّن سبحانه أن الغيب وعلم التأويل الكامل أمرٌ مختص به وحده، وأن المؤمن الحق لا يتجاوز الإيمان إلى التكلف في ما لم يُكشف له.

قال الإمام ابن خلدون في «المقدمة»: «وأما علم الحروف الذي يُدّعى به معرفة الحوادث والمغيبات فهو من علوم المتصوفة الغلاة، وقد دخل فيه كثير من الدجل، وهو باطل لا أصل له في الشريعة ولا في المعقول». وعلّق الإمام ابن تيمية على مثل هذه الممارسات قائلاً: «من ظن أن للحروف أسرارًا تُكشف بها المغيبات، أو تُحدث تأثيرًا في الكون، فهو من جملة أهل السحر والضلال». وهذا ما أكده الإمام الشاطبي في «الاعتصام» حين قال: «البدعة ما أحدث على غير مثال سابق من الدين، ولو كان فيها خير لسبقنا إليه الصحابة رضي الله عنهم».
وقد جاءت نصوص كثيرة تُحذر من ادعاء علم الغيب أو البحث فيه بغير سلطانٍ من الله، قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون}، وقال سبحانه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول}، وهذه الآيات نصٌ قاطع في أن الغيب مختص بالله تعالى، لا يطّلع عليه أحد إلا من أذن له بالوحي. أما من ربط بين الحروف والأقدار أو استخدمها في التنجيم والسحر، فقد وقع فيما نهى الله عنه.
وروى الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من أتى كاهنًا أو عرّافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة»، فكيف بمن يزعم أنه يعلم أسرار الغيب من خلال الحروف والأرقام؟ إنما هو في بابٍ من أبواب الكهانة، ولو لبس ثوب العلم أو التصوف. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فكل علمٍ لم يشهد له الكتاب أو السنة فهو مردود على صاحبه مهما زخرف القول.
وقد أفتت المجامع الفقهية وهيئات العلماء المعاصرة بتحريم هذا النوع من العلوم، لما فيه من تلبيس على الناس. جاء في فتوى هيئة الإفتاء الإسلامية: «إن علم الحروف والأوفاق لا أصل له في الدين، وهو من ضروب الدجل والبدع المحدثة التي لم يعرفها السلف، ومن زعم أنه يعلم بها الغيب فهو ضال مضل». وأجمع العلماء على أن الاشتغال به صرفٌ للجهد عن العلم النافع الذي أمر الله به في قوله: {وقل رب زدني علمًا}، فالعلم المشروع هو ما يقرب إلى الله لا ما يفتح باب الأوهام.
ومع ذلك، لا يُنكر الإسلام التأمل في الحرف من حيث الجمال والفن، فالحروف العربية في الخط الكوفي والنسخ والثلث هي معجزات فنية نُسجت على ضوء الروح الإسلامية. قال الإمام السيوطي في «الإتقان»: «الحروف المقطعة في أوائل السور من أسرار الله، لكن لا يجوز لأحد أن يدّعي علمها على وجه التأثير في الكون، فهي للتدبر والتعبد لا للادعاء والتنجيم». فشتّان بين من يتأمل في بهاء الحرف ليزداد إيمانًا، وبين من يوظفه لهدم العقيدة وترويج الوهم.
إن علم الحروف بما فيه من مزجٍ بين الحرف والعدد والرمز إنما يكشف عن نزعة بشرية للبحث في الخفي والمستور، غير أن الإسلام ضبط هذا الميل بميزان الوحي، فلا يفتح باب الغيب إلا بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، ولا يرضى بأن يتحول الإيمان إلى أرقامٍ أو جداولٍ أو طلاسم. فالحق أن سر الحروف ليس في أرقامها، بل في كونها جزءًا من كلام الله المعجز الذي به قامت السماوات والأرض، إذ قال عز وجل: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون}.
فمن أراد أن يبحث في أسرار الحروف فليتدبر القرآن الذي نزل بها، ففيه سر الوجود والبيان، أما من أراد بها بابًا للغيب فقد خالف الشرع والعقل، وبدّل الهداية خرافة. وإن أعظم الحروف التي عرفها الإنسان ليست تلك التي تُحسب وتُجمع، بل تلك التي نزل بها الوحي على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانت نورًا وهدًى للعالمين.











