تعليم

علم الحروف في الديانة اليهودية.. سرّ الخلق المكنون بين الألف والتاف

علم الحروف _ الجزء الأول

في عمق التراث اليهودي، تتجلّى الحروف العبرية ليس بوصفها رموزًا لغوية جامدة، بل ككائنات روحية حية تنبض بالطاقة الإلهية، وتشكّل أساس الوجود بأسره. فوفقًا للفكر الكَبّالي – أي التصوف اليهودي – فإن الحروف ليست وسيلة للتعبير فحسب، بل هي الأدوات التي استخدمها الله لخلق العالم، كما ورد في كتاب “سفر يتزيرة” (Sefer Yetzirah)، أحد أقدم النصوص الميتافيزيقية في التراث العبري، حيث يُقال: «باثنين وعشرين حرفًا منقوشة على الهواء، خلق الإله السماء والأرض والبحر وما فيهم».

هذا التصور يجعل اللغة العبرية لغة مقدسة، لا لأنّها لغة شعبٍ بعينه، بل لأنها – بحسب التقاليد – تحمل البنية السرّية للكون. وقد عبّر موقع Chabad.org، أحد أهم المراجع الكَبّالية المعاصرة، عن هذه الفكرة بوضوح حين قال: «كما يستخدم النجار أدواته لبناء البيت، استخدم الله الحروف العبرية لبناء العالم».
الحروف كأوعية للنور الإلهي:
يصف الحكماء الحروف بأنها “أوعية للنور”، فهي تحمل في أشكالها وأصواتها طاقات خفية تربط بين السماء والأرض. فكل حرف من الحروف الاثنين والعشرين يمتلك صدىً روحانيًا خاصًا به، ومعنى رمزيًا يتجاوز دلالته اللغوية. ويُقال إن نطق الحروف هو صورة من صور الخلق الصغير؛ فكما أن الله “قال فكان”، كذلك ينطق الإنسان ليعبّر ويكوّن.

على سبيل المثال، يُعدّ الحرف الأول أليف (א) رمزًا للوحدة الإلهية، وللصمت السابق على الخلق، وهو بلا صوت مستقل، كأنّه يمثّل السكون الذي سبق كلمة “ليكن”. أما الحرف بيت (ב)، الذي تبدأ به التوراة في كلمة برشيت (في البدء)، فيرمز إلى “البيت” والاحتواء، وإلى بدء الخلق المادي بعد الوحدة المطلقة.

وتتوالى الحروف لتروي قصة الكون:

جيمِل (ג) يرمز إلى العطاء والحركة نحو الخير،

دالِت (ד) إلى التواضع والباب المفتوح لتلقي النور،

هي (ה) إلى النفس الإلهي الذي منح الحياة،

واو (ו) إلى الربط بين العوالم العليا والسفلى،

بينما ميم (מ) تشير إلى الماء والحكمة المتدفقة،

وتاف (ת)، آخر الحروف، تمثل الخاتمة والاكتشاف الروحي، كما ورد في موقع Walking Kabbalah أن “تاف” هو “رمز الاكتمال والتصحيح النهائي” (תיקון).
القيمة العددية ومعاني الجيماتريا:
جانب آخر من علم الحروف هو ما يُعرف بـ”الجيماتريا” (Gematria)، وهو علم القيم العددية للحروف العبرية، إذ إن لكل حرف رقمًا محددًا يعكس طاقته وتأثيره. فالحروف من الألف إلى التاف تمثل الأعداد من 1 إلى 400، وتُستخدم لتحليل الكلمات والنصوص الدينية، بحثًا عن علاقات باطنية بين المعاني والأرقام.

فكلمة “ألوهيم” (אלוהים) مثلًا، التي تعني “الله”، تساوي رقم 86، وهو الرقم ذاته لكلمة “الطبيعة” (הטבע)، في إشارة رمزية إلى أن الطبيعة هي مظهر من مظاهر الإله، وفق تفسير حاخامي يعود إلى العصور الوسطى. كما استُخدمت الجيماتريا في تفسير آيات التوراة والبحث عن “شفرة الخلق”، حيث يُقال إن لكل رقم طاقة، ولكل طاقة أثر في الواقع الروحي والمادي.

الحروف والتأمل الكَبّالي:
في مدارس الكَبّالة القديمة، كان التأمل في الحروف العبرية يُعدّ وسيلة للوصول إلى درجات من الصفاء الروحي. فقد كان الحاخامات والمتصوفة يرسمون الحرف في الهواء، ويتأملون شكله وصوته، معتقدين أن لكل شكل هندسي وحركة رسمٍ مغزى كوني. فالحرف أليف، مثلًا، يتكوّن من خطين صغيرين متقابلين (رمزًا للسماء والأرض) يتصلان بخط وسطي يربط بين العالَمين، وهو ما وصفه الحاخام إسحاق لوريا بأنه “جسر بين الروح والجسد”.

أما الحرف ميم فله شكل مغلق في نهايته، ويُرمز به إلى “الأسرار المحتجبة” التي لا تنكشف إلا لمن بلغ مرتبة الحكمة. وتُستخدم هذه التأملات حتى اليوم في مدارس “حباد” و”القبالة اللوريانية” كطريقة لتهذيب النفس وفتح البصيرة.

الحروف وأسرار الخلق:
يعتقد الكَبّاليّون أن ترتيب الحروف ليس عشوائيًا، بل هو انعكاس لنظام كوني دقيق. فالخلق، في رأيهم، تمّ عبر تسلسل لغوي إلهي: كل حرف نطق به الخالق أوجد مستوى من الوجود، من النور الأعلى إلى العالم المادي. وقد ورد في كتاب سفر التمونة (Sefer HaTemunah) أن شكل الحروف تغيّر مع العصور لأن العالم ذاته يتغير في كل دورة كونية.

ويرى الباحثون في هذا العلم أن هناك تطابقًا بين الحروف العبرية والعشرة “سفيروت” (Sefirot) – وهي المراتب العشر للإشعاع الإلهي في الكَبّالة – حيث تتوزع الحروف كجسور بين هذه المراتب، تربط الحكمة بالفهم، والجمال بالقوة، والعالم العلوي بالعالم السفلي

من اللغة إلى الميتافيزيقا:

لا يُنظر إلى الحروف هنا بوصفها أدوات فكرية فحسب، بل كقوانين للوجود نفسه. فكل ما هو موجود – من الضوء إلى المادة – يُعدّ ترددًا أو تجلّيًا لحرف من الحروف الأصلية. ولذا فإن دراسة الحروف في اليهودية لا تنفصل عن دراسة النفس والعالم، بل تتداخل معها في بنية واحدة، حيث يصبح الحرف وسيلة لفهم الله والإنسان والكون.

وقد لخّص موقع Jewish Unpacked هذه الرؤية بالقول: «في كل حرف عبري يسكن عالم من المعاني؛ فهو يحمل نَفَسَ الخالق وأثر الخلق الأول».

بين العلم والإيمان:
ورغم ما في هذا العلم من رمزية عميقة، إلا أن الحاخامات التقليديين يحذرون من الخوض فيه دون معرفة كافية، لأنه – كما يقولون – «يفتح أبوابًا من النور قد لا يحتملها القلب الضعيف». ومع ذلك، يبقى “علم الحروف” جزءًا أساسيًا من الميراث الروحي اليهودي، يجمع بين الفكر، واللغة، والفلسفة، والرياضيات، والتصوف، في منظومة واحدة ترى في اللغة الإلهية شفرة الوجود الأعظم.

إن علم الحروف في الديانة اليهودية ليس مجرد تأمل لغوي، بل هو فلسفة كونية ترى في كل نقطة وخطّ سرًّا من أسرار الخلق. فبين الألف والتاف، تمتد رحلة الروح في فهم العالم والنفس والخالق، حيث يصبح الحرف كلمة، والكلمة كونًا، والكون مرآة لحروفٍ قالها الله في البدء، وما زالت تتردد في أعماق الوجود إلى اليوم.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اشتراك

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا