
في أعماق مقابر وادي الملوك، وتحديدًا في مقبرة الملك رمسيس السادس، يمتدّ على الجدران نصّ أسطوريّ من أجمل وأعقد ما خلّفه المصري القديم: كتاب الكهوف.
ليس نصًا للقراءة العادية، بل خريطة روحية تصف رحلة الشمس والروح عبر ظلماتٍ موحشة وممرّاتٍ من النار، حيث تُحاسب الأرواح وتُفرّق بين الصالحين والأشرار.
إنه واحد من النصوص الجنائزية العظيمة التي خلدت إيمان الفراعنة بأن الظلام ليس نهاية، بل طريق إلى النور والبعث الأبدي.
نشأة الكتاب ومكانته:
ظهر كتاب الكهوف في نهاية الدولة الحديثة، خلال عهد ملوك الأسرة العشرين (القرن الثالث عشر قبل الميلاد)، وكان بمثابة تطوّر متأخّر في سلسلة الكتب الجنائزية المصرية التي بدأت بـ نصوص الأهرام ومرّت بـ كتاب الأمدوات وكتاب البوابات.
لكن هذا النصّ، بخلاف سابقيه، أكثر عمقًا في تصويره لمشاهد العقاب والجزاء، وأشد رمزية في وصفه لرحلة الشمس داخل باطن الأرض.
أول ظهور مكتمل للكتاب كان في مقبرة رمسيس السادس (KV9)، حيث تزيّنت الجدران العليا والسفلية بمشاهد دقيقة تُظهر مراحل العبور في ستة كهوفٍ مظلمة تمثّل طبقات العالم السفلي.
ومن هناك انتقل الكتاب إلى مقابر أخرى، لكنّ نسخة رمسيس السادس بقيت الأكثر اكتمالًا ودهشة.
فكرة الكتاب ومضمونه:
يصف الكتاب رحلة الإله رع — رمز الشمس والحياة — أثناء عبوره الليل في العالم السفلي، مرورًا بسلسلة من الكهوف التي تضم الأرواح والأعداء والآلهة الحارسة.
في كل كهفٍ، تُعرض مشاهد ترمز إلى صراع النور والظلام، حيث تُعاقب الأرواح الشريرة في أعماق النار، بينما الأرواح الطاهرة ترافق رع في طريقه إلى الشروق.
يتكوّن النصّ من ستة أقسام رئيسية، يمثل كلّ منها “كهفًا” أو مرحلة من مراحل الرحلة:
1. المدخل إلى العالم السفلي: تبدأ الشمس في الغروب وتدخل البوابة الأولى للعتمة، ترافقها أرواح مقدّسة تحرس القارب الشمسي.
2. الكهف الأول والثاني: يُظهران مخلوقات نصفها إنسان ونصفها أفعى، تحرس الأسرار وتمنع الأشرار من العبور.
3. الكهف الثالث والرابع: يُعذَّب فيهما أعداء رع الذين تمرّدوا على النظام الإلهي، وتُقيَّد أرواحهم بالأغلال وسط النيران.
4. الكهف الخامس: يتّحد فيه رع مع الإله أوزوريس، رمز الموت والبعث، ليصبحا كيانًا واحدًا يمثل التجدد والعدالة.
5. الكهف السادس: النهاية المنتظرة؛ حيث تُشرق الشمس من جديد من رحم الأرض، مُعلنة فجر الأبدية.
رمزية الكهوف في الفكر المصري:
الكهوف في هذا النص ليست مجرد أماكن مادية، بل رموز للوعي والاختبار الروحي.
فكل كهف يمثل مرحلة من مراحل تطهير النفس، وكل مشهد من مشاهد الظلمة يرمز إلى مواجهة الإنسان لذاته وخطاياه.
وفي الوقت نفسه، يعكس الكتاب رؤية المصري القديم بأن العالم السفلي ليس جحيمًا مطلقًا، بل مكان تطهيرٍ وعدالةٍ توازن بين الثواب والعقاب.
يقول أحد المقاطع الهيروغليفية المترجمة من النص:
«من يسير في الكهوف بعين النور لا يخاف، لأن من يعرف الحق لا تبتلعه الظلمة.»
الفلسفة الدينية وراء الكتاب:
في كتاب الكهوف تتجلّى أعمق فكرة فلسفية لدى الفراعنة: أن الخلود لا يُمنح، بل يُستحق.
فالروح التي عاشت بالحقّ، وخدمت النظام الكوني (ماعت)، تمرّ عبر الكهوف بسلام وتخرج مع الشمس في الفجر.
أما الأرواح التي خانت العدالة، فتُحبس في ظلمة سرمدية، يُسحق فيها الأشرار تحت الأفاعي المقدسة أو يبتلعهم النار الإلهي.
هنا نلمس بوضوح تطوّر المفهوم المصري للعدالة الإلهية — لم تعد مقتصرة على النبلاء أو الملوك، بل شملت كل إنسان، وفقًا لأعماله وسيرته في الدنيا.
الجانب الفني والتصويري:
تُعتبر الرسومات المستوحاة من كتاب الكهوف في مقبرة رمسيس السادس من أروع ما خُلّد في الفن المصري القديم.
تظهر المشاهد على جدارين متقابلين: في الأعلى تمرّ الشمس وأرواح النور، وفي الأسفل تُعرض الكهوف المظلمة حيث الأرواح المعذبة والأفاعي الحارسة.
ألوان الذهب والأحمر والنيلي تُستخدم لتمثيل النور والدم والنار والماء — في انسجامٍ بصريٍّ يعكس صراع الحياة والموت.
الفن هنا ليس مجرد زخرفة؛ إنه لغة مقدسة.
كل رمز يحمل معنى:
الأفعى تمثل الحماية والعدل.
القارب الشمسي رمز النجاة والرحلة.
الأيدي المرفوعة تمثل استقبال النور.
المومياءات الواقفة ترمز إلى الأرواح في انتظار البعث.
العلاقة مع الكتب الأخرى:
يشكّل كتاب الكهوف المرحلة الأخيرة من تطور الكتب الجنائزية الكبرى، بعد كتاب الأمدوات وكتاب البوابات وكتاب الأرض.
لكنّه يتميّز بتركيزه على مشاهد العقاب الأخلاقي، فيتحوّل من مجرد وصف للرحلة الكونية إلى محكمة كونية شاملة.
وفيه يظهر لأول مرة ما يشبه مفهوم الجحيم في الفكر المصري القديم، إذ تُصوَّر النار والعذاب بوصفهما تطهيرًا لا انتقامًا.
الرسالة الخالدة:
في نهاية الكتاب، حين تنتهي الشمس من عبور الكهف الأخير، تُبعث من جديد وهي محاطة بالأرواح التي نجت.
يُعلن النصّ:
«لقد وُلد رع من جديد من ظلمات الأرض، وخرجت معه الأرواح التي عرفت الطريق.»
إنها لحظة النصر الكوني — انتصار النور على الظلام، والحياة على الموت.
وبذلك يختتم كتاب الكهوف رؤيته للكون: أن الخلود وعدٌ للعارفين بالحق، وأن كلّ ظلمة تحمل في أعماقها بذرة نور.
يظلّ كتاب الكهوف وثيقةً فريدة في التاريخ الإنساني، إذ يجمع بين اللاهوت والفن والفلسفة في آنٍ واحد.
إنه مرآة لرؤية المصري القديم للعالم الآخر، وفهمه العميق للعدالة الكونية، وإيمانه بأن الروح التي تعرف الطريق لا تضيع في الظلام.
وعلى جدران وادي الملوك، ما زالت الألوان باقية تشهد على تلك العقيدة العظيمة:
أن الموت رحلة، وأن الشمس — مثل الإنسان — تموت كل مساء لتولد من جديد.
“من دخل الكهوف بقلبٍ طاهر، خرج منها شمسًا لا تغيب.”











