
لحظة تتكلم فيها الدولة بلغة الشارع:
في أوج الاحتجاجات الشبابية التي عمّت مدن المغرب، جاء الخطاب الملكي لافتتاح البرلمان ليضع النقاط على الحروف: لا قطيعة بين الدولة والمجتمع، بل مراجعة شاملة لمفهوم المسؤولية. بلغة هادئة وصارمة في آن، أدار الملك محمد السادس تفاعله مع الغضب الشعبي بمنطق الإصلاح لا التبرير، وبمنهج الدستور لا الارتجال.
+ من التقدير إلى التكليف:
استهلّ الخطاب بتقدير البرلمان والأحزاب، لكنه لم يمنحهم صكّ الغفران. فقد تحوّل الثناء إلى تكليف واضح: استكمال الولاية بروح المسؤولية، والانتقال من الخطاب إلى الأثر. إنه اختبارٌ للجدّية قبل أن يكون إشادةً بالإنجاز.
+ تنمية بلا ازدواجية:
أنهى الخطاب الجدل حول المفاضلة بين المشاريع الكبرى والبرامج الاجتماعية. فالمغرب، كما قال الملك، لا يمكن أن يبني مطاراً دون أن يبني معه مدرسة. التنمية الشاملة هي وجه الدولة الواحد، لا وجوه متصارعة بين الاستثمار والبشر.
+ تواصلكم غائب.. وثقة الناس تضعف:
وجّه الخطاب أقسى نقدٍ للنخب السياسية منذ سنوات، حين أكّد أن ضعف التواصل البرلماني والحزبي مسؤولية وطنية ضُيّعت. فالمغاربة، كما قال الخطاب ضمناً، لا يريدون خطابات فضفاضة، بل شروحاً دقيقة لقرارات تؤثر في حياتهم اليومية. إنها لحظة المكاشفة لا المناورة.
+ التنمية لا تُقاس بعمر الحكومة:
رسالة أخرى قُرئت بين السطور: المغرب لا يُدار على توقيت الانتخابات. التنمية لا تنتظر الحملات، ولا تُعطَّل بموسمٍ انتخابي. إنها مسار وطني طويل الأمد، يتجاوز الحسابات الضيقة التي كبّلت البلد وأبطأت مسيرته.
+ العدالة المجالية… من المركز إلى الأطراف:
أعاد الخطاب التوازن بين القرية والمدينة، داعياً إلى منطق “رابح–رابح” في التنمية. لم يعد مقبولاً أن تبقى الجبال والواحات مجرّد صورٍ في نشرات الأخبار، بل يجب أن تكون جزءاً من خريطة الإنصاف الوطني. فالوطن، كما قال الملك في أكثر من مناسبة، لا يُبنى بنصفه المضيء ونصفه المعتم.
+ العدالة الاجتماعية.. معيار الشرعية:
حين يتحدث الملك عن العدالة الاجتماعية، فهو لا يردّد شعاراً بل يضع معياراً للشرعية. البطالة، التعليم، الصحة، والسكن ليست ملفات ثانوية، بل مفاصل الأمن الاجتماعي. فالتنمية بلا عدالة، كما أوحى الخطاب، لا تصنع استقراراً بل احتقاناً.
+ الجبال والواحات.. ذاكرة الألم ومختبر الثقة:
استحضار المناطق الهشة كان رسالة مزدوجة: وفاء لضحايا زلزال الحوز، وتنبيه إلى أن التنمية تُقاس بمن ينسى لا بمن يتذكر. فإذا لم تُنصف الجبال اليوم، ستعود غداً بصوت الغضب لا بصوت الأمل.
+ الثقة والأمانة والنزاهة.. القيم المفقودة:
استوقف الخطاب الجميع عند خمس كلمات مفتاحية: الثقة، الأمانة، المسؤولية، النزاهة، الالتزام. ليست مجرد قيمٍ أخلاقية، بل خريطة طريقٍ جديدة للحكم والإدارة. فحين تُستعاد الأخلاق في الممارسة العامة، تُستعاد هيبة الدولة في عيون مواطنيها.
+ الدستور والضمير.. جناحا الدولة:
استشهد الملك بالآية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.”
ليذكّر بأن السياسة بلا ضمير تفقد معناها، وأن المؤسسة الملكية تُدير التوازن بمنطق الدستور والشرعية، لا بمنطق الردع والخوف. إنها فلسفة الحكم الراسخ التي تجعل القانون فوق الجميع.
+ بين لغة الشارع وصوت الدولة:
الشارع قال كلمته، والملك استمع. لكن الخطاب اختار طريق الإصلاح الهادئ لا الانفعال. فمن أراد مغرباً جديداً، عليه أن يشارك في بنائه ضمن الإطار الدستوري، لا خارجه. الدولة مدّت اليد، والكرة الآن في ملعب السياسي والمواطن معاً.
+ التغيير يبدأ من الذات:
الرسالة الأخيرة كانت حاسمة: “فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.”
التغيير ليس فعلاً فوقياً، بل مسار جماعي يبدأ من الضمير الفردي. الإصلاح لا يفرض بالقانون فقط، بل يُبنى بقيم الصدق والنزاهة في كل موقع.
+ تسعون يوماً للاختبار:
الخطاب الملكي ليس نهاية النقاش، بل بدايته. والأيام التسعون القادمة ستكون امتحاناً عملياً للجميع.
فالعيون الآن تتجه إلى:
(*)قانون المالية 2026: هل سيُترجم إلى ميزانية اجتماعية حقيقية؟
(*)إعمار الحوز والمناطق الجبلية: هل ستتحرك الورشات فعلاً أم تبقى الأرقام على الورق؟
(*)الأحزاب والبرلمان: هل سيعودان إلى الميدان ويكلّمان الناس بلغتهم؟
(*)آليات المحاسبة: هل سنشهد قرارات حازمة في ملفات الفساد والإهمال؟
(*)نبض الشارع: هل ستهدأ الأصوات أم ستطالب بإيقاعٍ أسرع للتغيير؟
تسعون يوماً فقط ستكفي لنعرف إن كان الخطاب قد فتح باب الإصلاح،واكتفى بتهدئة العاصفة.
الخطاب الملكي لعام 2025 لم يكن تهدئةً سياسية، بل تأسيساً لمرحلة وعيٍ وطني جديد.
لقد قال الملك للشعب وللنخب معاً:
“أنا أسمعكم… فهل أنتم فاعلون؟”







