
لم يعد الحديث عن الوراثة اليوم محصورًا في لون العينين أو شكل الأنف، ولا في الصفات الجسدية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء.
ففي السنوات الأخيرة، بدأت أبحاثٌ علمية تفتح أبوابًا غير متوقعة، تقول إن ما نرثه من آبائنا لا يقتصر على الجسد فحسب، بل يمتد إلى الخوف، والعاطفة، وربما الذكرى.
إنها فكرةٌ تكاد تهزّ أسس علم الوراثة الكلاسيكي الذي وضعه مندل قبل قرنين: أن الذاكرة يمكن أن تُورَّث.
من الفكرة إلى الدليل: الفئران التي ورثت الخوف:
عام 2013، أجرى فريق من علماء الأعصاب في جامعة إيموري الأمريكية (Emory University) تجربةً ستُصبح علامةً فارقة في تاريخ علم النفس العصبي.
أخذ الباحثون مجموعةً من الفئران، وعرّضوها مرارًا لرائحةٍ تشبه رائحة زهور الكرز، وكانوا في كل مرة يطلقون الرائحة يوجّهون للفأر صعقة كهربائية خفيفة.
وبعد أيام قليلة، تعلّمت الفئران أن تربط الرائحة بالألم، وصارت ترتعد وتفرّ كلما شمت تلك الرائحة حتى دون وجود الصعقة.
إلى هنا، لم يكن في الأمر جديد: إنها ذاكرة شرطية معروفة في علم السلوك.
لكن المفاجأة الكبرى جاءت بعد ذلك.
فقد وُلد جيل جديد من هذه الفئران — لم يتعرض لأي تدريب أو عقاب — ومع ذلك، عندما شمّ رائحة الكرز لأول مرة، أظهر الخوف ذاته الذي أبداه أبواه!
بل والأدهى من ذلك، أن الجيل الثالث من أحفاد تلك الفئران تكرّر معه نفس السلوك، وكأن الذاكرة الوراثية عبرت الزمن دون أن تمرّ بالتجربة نفسها.
حين فحص العلماء أدمغة الفئران، لاحظوا أن المناطق المسؤولة عن الشمّ والخوف تغيّر فيها التعبير الجيني دون أن يتبدّل تسلسل الحمض النووي (DNA) ذاته.
أي أن التجربة لم تغيّر الجينات نفسها، بل طريقة عملها، عبر آلية تُعرف بـ الوراثة اللاجينية (Epigenetic inheritance) — وهي عملية تتحكم في “تشغيل” الجينات أو “إيقافها” تبعًا للتجارب البيئية أو النفسية.
من الفئران إلى الإنسان: صدمة الماضي التي لا تموت
ما لبثت الفكرة أن تجاوزت المختبر.
ففي العقد الأخير، بدأ باحثون في علم النفس العصبي يلاحظون أن أبناء الناجين من المحرقة النازية (الهولوكوست) يعانون معدلاتٍ أعلى من اضطرابات القلق والتوتر، حتى دون أن يعيشوا الأحداث ذاتها.
أظهرت الدراسات — أبرزها تلك التي قادتها العالمة رايتشل يهودا (Rachel Yehuda) في نيويورك — أن لدى هؤلاء الأبناء تعديلات كيميائية لاجينية على الجينات المرتبطة بتنظيم هرمونات التوتر، وهي التعديلات نفسها التي وُجدت لدى آبائهم الذين عانوا الصدمة الأصلية.
وفي دراسة أخرى عن المجاعة الهولندية الكبرى عام 1944، وُجد أن أطفال الأمهات اللواتي عشن تلك المجاعة أثناء الحمل، ورثوا بدورهم استعدادًا أيضيًا مختلفًا للتعامل مع الطعام، وكأن أجسادهم “تذكّرت” سنوات الجوع التي لم يعيشوها فعليًا.
هذه النتائج تقود إلى فرضية مذهلة:
أن الإنسان لا يولد صفحةً بيضاء تمامًا، بل يحمل في خلاياه “ظلال ذكريات” أسلافه — تجارب لم يعشها، لكنها تعيش فيه.
ذاكرة الخوف واللاوعي الجمعي:
عندما تحدّث عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ في منتصف القرن العشرين عن مفهوم اللاوعي الجمعي، اعتبره معظم العلماء فكرة رمزية فلسفية لا أكثر.
كان يونغ يرى أن داخل كل إنسان “خزانًا” من الصور والرموز والأفكار الموروثة عن البشرية منذ القدم، وأن هذه الذاكرة الجماعية تظهر في الأحلام والأساطير والسلوك الغريزي.
لكن مع اكتشاف آليات الوراثة اللاجينية، بدا وكأن العلم بدأ يقترب من تلك الفكرة القديمة بوجهٍ جديد.
فالخوف من الثعابين أو من الظلام مثلًا، قد لا يكون فقط رد فعل شخصي، بل “ذاكرة تطورية” قديمة انتقلت إلينا من أجدادٍ واجهوا تلك الأخطار في العصور الأولى.
من الخيال إلى الأدب: نبيل فاروق وذاكرة الأجيال:
في العالم العربي، التقط الأديب والطبيب المصري الدكتور نبيل فاروق هذه الفكرة منذ تسعينيات القرن الماضي، وتناولها في كتاباته الخيالية والعلمية، معتبرًا أن العقل البشري يحمل شيفرة الماضي داخل لا وعيه.
وفي إحدى مقالاته، أشار إلى أن الإنسان قد يحمل في أحلامه ومشاعره ما عاشه أجداده، وأن الذاكرة لا تموت، بل تُخزّن في الجينات لتنتقل عبر الأجيال.
كانت تلك رؤية أدبية متقدمة لزمنها، لكنها اليوم تبدو قريبة من بعض الحقائق التي بدأت الأبحاث الغربية تلمّح إليها.
لقد استطاع فاروق، بأسلوبه القصصي، أن يترجم للقراء العرب ما بدأ العلم الحديث بالكشف عنه: أننا لسنا وحدنا داخل وعينا، بل ترافقنا ظلال من وعْي الأسلاف.
انعكاسات فلسفية وإنسانية:
هذا الاكتشاف لا يهمّ علماء الوراثة فحسب، بل يفتح أسئلة وجودية عميقة:
إن كانت التجارب تُورَّث، فهل نعيش حياتنا بحريةٍ تامة، أم أننا نكرّر قصصًا بدأت قبلنا بزمن؟
وهل يمكن علاج أمراضٍ نفسية حديثة بتفكيك جيناتٍ تحمل صدماتٍ من الماضي؟
بل هل يُمكننا، يومًا ما، قراءة ذاكرة الأسلاف كما نقرأ كتابًا بيولوجيًا مفتوحًا؟
لقد تحوّل الجينوم البشري إلى أرشيفٍ صامت للتاريخ الإنساني، يخبّئ بين طياته قصص الخوف والبقاء والأمل.
وكل اكتشاف جديد في علم الوراثة اللاجينية يجعل هذا الأرشيف ينطق أكثر، كأنه يقول لنا:
“أنتم لا تبدأون من الصفر… أنتم استمرارٌ لذاكرةٍ قديمة لم تُغلق صفحاتها بعد.”
بين العلم والدهشة:
رغم أن التجارب حتى الآن تُثبت انتقال “الخبرات الانفعالية” وليس الذكريات الواعية، فإن ما نعرفه اليوم ليس سوى بداية الطريق.
العلماء يتحدثون بحذر، والفلاسفة بالشغف، والناس بالدهشة.
لكن ما يبدو مؤكدًا أن الذاكرة ليست حكرًا على الدماغ وحده، بل هي سجلٌّ بيولوجيٌّ يعبُر الأجيال، يكتب بلغةٍ خفيةٍ على شيفرة الحياة نفسها.
وهكذا، وبين المعادلة الكيميائية والقصيدة الإنسانية، يقف العلم اليوم أمام سؤالٍ لم يعد ضربًا من الخيال:
هل نعيش ذكرياتنا فعلاً… أم نحمل في أعماقنا ذاكرة أجدادٍ لم نعرفهم قط؟











