
في زمنٍ تتسارع فيه الخطى، وتتنافس فيه الأصوات بين ضجيج المدن وشاشات الهواتف، أصبح الأجداد يعيشون في صمتٍ ثقيلٍ يشبه الغربة داخل الوطن.
أولئك الذين كانوا يومًا منارة البيوت، ومصدر الحنان والحكمة، تحوّلوا في زمن السرعة إلى ظلالٍ باهتة على جدران الذاكرة، يراقبون أبناءهم وأحفادهم من بعيد، وقد شغلتهم الحياة عن جذورهم الأولى.
كم من جدٍّ يجلس اليوم على كرسيٍّ خشبيٍّ أمام باب البيت، يرمق الطريق بعيونٍ تملؤها الأمنية أن يطلّ أحد الأحفاد بابتسامةٍ تعيد إليه دفء الأيام الخوالي؟
وكم من جدةٍ تحتفظ بملابسٍ صغيرةٍ في صندوقٍ عتيق، تلمسها بأنامل مرتعشة، كأنها تلمس وجوه الغائبين الذين وعدوا بالزيارة ولم يأتوا؟
كانوا في الماضي قلب الأسرة النابض؛ لا تُتخذ القرارات إلا بمشورتهم، ولا يمرّ عيدٌ دون وجودهم في صدر المائدة، ولا يُقام عرسٌ دون أن تُزيَّن الذاكرة بابتسامتهم ودعواتهم. كانوا التاريخ الحيّ، والذاكرة التي تحفظ الأسماء والقصص والأصول. كانوا مدرسة القيم قبل أن نعرف المدارس.
أما اليوم، فقد أصبحوا غرباء في بيوتهم، يكتفون بسماع أصواتٍ عابرة عبر الهاتف، أو برسائل صوتية باردة تأتيهم من وراء البحار.
لقد انشغل الأبناء في دوامة العمل، والأحفاد في عالمٍ افتراضيٍّ لا يعرف رائحة القهوة التي كانت الجدة تُعدّها بحب، ولا صوت المسبحة التي لا تفارق يدي الجدّ.
الأجداد لا يريدون الكثير، لا يطلبون الهدايا الفاخرة، ولا الرحلات الباذخة.
كل ما يريدونه هو لمسة يدٍ دافئة، نظرة امتنانٍ صادقة، حديث قصير يملؤه الودّ، أو حتى جلسة صامتة تشعرهم بأنهم ما زالوا على قيد القيمة.
إنهم لا يطلبون الشفقة، بل الاحترام. لا يريدون أن يُذكروا في المناسبات فحسب، بل أن يُحتضنوا في تفاصيل الحياة اليومية، كما احتضنونا نحن يوم كنا نخطو أولى خطواتنا بتعثّرٍ ودموع.
فلنتذكّر أن الشجرة التي تتنكر لجذورها سرعان ما تذبل.
وأن الأسرة التي تُقصي كبارها تفقد بركتها ودفئها ومعناها.
فليكن هذا المقال تذكرةً لنا جميعًا:
عودوا إلى الأجداد قبل أن يخطفهم الغياب، اجلسوا قربهم، اسمعوا حكاياتهم، فكل تجعيدة على وجوههم سطرٌ من تاريخنا، وكل نظرة في عيونهم نافذة إلى ما كنّا عليه قبل أن نُسرق من بساطة الحياة.
الأجداد هم الجذور التي من دونها لا حياة للشجرة، وهم الذاكرة التي تمنحنا هويةً في عالمٍ يذوب فيه كل شيء سريعًا.
فلنمنحهم ما يستحقون: الوقت، والاحترام، والحبّ قبل أن نصبح نحن مكانهم، ننتظر من يذكرنا في زمنٍ آخر.











